من يملك القرار في تعز: الدولة أم الشيخ؟

في ظهوره على قناة الجزيرة قال حمود المخلافي بعبارة لا تحتمل اللبس (أوقفنا المدعو أسامة الشرعبي)، هذا ليس مجرد تصريح بل إقرار فاضح يكشف حجم النفوذ الموازي الذي يتجاوز سلطة الدولة ويؤكد بوضوح شديد أن القرار الأمني في تعز لم يعد يصدر من مؤسساتها بل من قائد المنظومة. فالناطق الرسمي للأمن لم يكن متمرداً على القانون أو مطلوباً بقضايا جنائية بل هو ضابط مارس أبسط واجباته بقوله الحقيقة بمنتهى الشجاعة ومن دون أي تحفظ، خرج إلى الناس بعد يومين من اغتيال افتهان وهو يدرك أنه يضع رقبته على المقصلة وكشف ما تحاول المنظومة تمريره وطمسه وتغطيته، خرج كضابط منحاز للعدالة والنظام وتحدث كصوت نزيه للمؤسسة وليس كصدى للنفوذ، ولكن الوضع اليوم وأمس وغدًا في تعز بات بشكل واضح يتعامل مع قول الحقيقة كتمرد وجريمة ومع النزاهة كتهمة ومع الولاء للمؤسسة كسبب كافٍ للعقوبة والإقصاء والترهيب، ولهذا كان قرار الإطاحة بأسامة من منصبه وعمله والتحفظ عليه قراراً سياسياً متعمداً جدًا وليس مجرد إجراء إداري نتيجة وجود خلل أو خطأ، والهدف منه كسر هذا النموذج وإيصال رسالة لكل من يفكر بالتمرد على الصمت والخروج عن طوع المنظومة والانحياز للواجب الوطني والمهني. 

وهذا القرار المتمثل بإقالة الناطق بالرسمي بالأمن لم يكن قراراً منفصلاً أو مجرد ردة فعل متعصبة بل جزء من سلسلة خطوات منظمة لإعادة إحكام القبضة على مفاصل الوضع وخاصة الأمني، فبعد أن كشف التسجيل الذي نشر لمحمد صادق بعد ساعات من مقتله عن ضلوع محمد سعيد المخلافي المباشر في اغتيال الدكتورة افتهان جاء اتصال نائب مدير الأمن وقائد الحملة الأمنية بحمود المخلافي ليؤكد عمق التغلغل وحجم النفوذ حين سأله ما رأيك يا شيخ؟! وكأن القرار لم يعد قرار الدولة ولا المؤسسات بل قرار الشيخ وموافقته للأمن بالقيام بدوره، وبهذا السؤال وحده يمكن تلخيص حجم انهيار منظومة الضبط في تعز وكذلك مدى تحول الأجهزة الأمنية من سلطة مؤسسية لتنفيذ القانون إلى أداة لتنفذ تعليمات الشيخ والحزب.

أما محمد سعيد المخلافي المتهم الرئيس والمباشر في جريمة الاغتيال لو سألنا عن مكانه الآن ومنذ لحظة احتجازه فسنجده يعيش في مقر إدارة الأمن كقائد وزعيم نافذ وليس كمتهم وله مرافقوه ونفقاته واتصالاته ويتنقل بحرية داخل المقر الذي كان يفترض أن يحتجزه ويحوله إلى السجن المركزي مباشرة كمتهم، وهذه المفارقة أيضًا تؤكد أن المسألة لم تعد مجرد تساهل أو فساد بل مشروع ممنهج لحماية أدوات العنف الموالية والإبقاء على مفاتيح القوة بيد الولاء بدلاً من يد العدالة، وخلف كل ذلك هدف واضح وممنهج وهو تمييع الحقيقة وقتل الوعي الجمعي، من خلال استنزاف غضب المواطنين في الساحات، فالمنظومة تعلم جدًا أن الشارع الذي يتوسده الآلاف المطالبين بالعدالة لا يمكن قمعهم بقوة السلاح بل بإنهاكهم بالانتظار والمماطلة في تنفيذ الإجراءات القانونية وتحقيق العدالة، ولهذا السبب تتجمد الملفات وتؤجل التحقيقات وتدار المعارك الجانبية حتى يصاب الناس بالإحباط واليأس ويعودون إلى منازلهم مهزومين ومثقلين بالخذلان.

هذه ليست مجرد أزمة داخلية لكنها انقلاب مكتمل على فكرة الدولة نفسها، فحين يعاقب من يكشف الحقيقة ويقوم بدوره المهني والأخلاقي والإنساني بالإيقاف والعزل ويكافأ من يرتكب الجريمة بالرعاية والاهتمام وتتحول إدارة الأمن إلى مأوى فندقي للمجرمين فإننا أمام واقع لا يمكن وصفه إلا بأنه احتلال داخلي، احتلال يمارسه الإصلاح على مؤسسات الدولة وعلى وعي الناس معًا، ولذلك فإن الرسالة التي يجب أن تقال اليوم بصوت مرتفع وواضح، إن معركة تعز لم تعد بين الدولة والحوثي فقط بل بين الدولة ومن يدعون تمثيلها، وبين صوت العدالة وصوت النفوذ، وبين من يريد لوطنه ومدينته مؤسسات حقيقية ومن يريد أن يبقيها رهينة في قبضة الشيخ والحزب، وأن أول خطوة لإنقاذ تعز واستعادتها إلى مكانها ودورها الوطني تبدأ من كشف الحقيقة، والاعتراف بأن العدالة لا يمكن أن تدار من هاتف الشيخ ولا من مقرات الحزب بل من ضمير الدولة الذي يحاولون اغتياله كل يوم بفعل متقصد.