حوار بين تعز وإب.. حين تتحدث الروح إلى الروح
صلاح الطاهري
في مساءٍ يمني مثقل بالخذلان، جلست "تعز" على ربوةٍ حزينة، تُحدق في الجهات الأربع. لا تنتظر شيئاً سوى أن تتكئ على ذاكرةٍ لم تُلوثها البنادق. وبينما كان الغروب ينسحب بهدوء من نافذة الحلم، جاءت "إب" تمشي بخُطى مثقلة بالعطر والحزن، متعبة من التجمل، حافية من الأمن.
نعم في زاوية خفية من وجع هذا الوطن، جلست "تعز" تلتقط أنفاسها بعد يوم طويل من الحصار والمآسي. وإن ذبلت مشاقرها الندية فجأة، جاءت "إب" تمشي بخجل الحقول، وعطر البن، والحق المُصادر والحرية والكرامة المسلوبة وجروح الصمت. تبادلت المدينتان النظرات، ثم بدأ الحوار.
تعز (بوجع ممزوج بالفخر)
أما زلتِ تذكرينني يا إب؟
إب (بهمس حنون)
وهل أنسى أختي التي كانت تُغني وما زالت للثورة، وأنا أزرع للحرية وروداً!
تعز (بحزن عميق)
في كل شارعٍ عندي قصة وجع، وفي كل زاوية قبر حلم.
أتدرين؟ لم تقتلني الحرب فحسب، قتلني أيضاً لصوص النجاح، أولئك الذين يصادرون الحياة ثم يطلبون مني أن أبتسم.
قتلوكِ أنتِ أيضاً يا إب، لكنهم قتلوا فيّ "افتهان المشهري"، الصوت الجميل الذي قاوم قبحهم بالكلمة والنزاهة اغتالوها أمام العالم، كما اغتالوا ضمير هذه البلاد.
إب (بانكسار)
وأنا كل يوم أشيّع إنساناً ما.
قتلوا "حمدي المكحل" لأنه غنّى للحياة، وقتلوا "أبو شعر" لأنه لم يركع، و"ختام العشاري" لأنها طلبت الأمان.
حتى صمتي بات يُعتبر جريمة، وكل من يرفع رأسه في إب يُساق إلى حتفه.
ولا اخفي عليك أني أُطمس من الهوية والانتماء طفولتي تساق لمحارق الموت، ورجالى رهائن ومختطفون في زنازين العبث.
تعز
يا ليتهم يعرفون ماذا فعل حمل السلاح بأطفالنا،
حتى دفاترهم تحولت إلى دروع، ومدارسهم إلى خنادق.
صار الغناء خيانة، والنجاح تُهمة، والضحكة خنجراً.
لم تعد الحياة حياة يا إب، صارت حرباً، مؤجلة في كل زقاق وكل مدينة وقرية.
إب (بغصّة)
وأما أنا فأنزف تحت رايات كثيرة، كل راية تسلبني لوناً جديداً من الخوف.
أغتسل يومياً بالدم، والتهمة، والإذلال، وأتزين بالكتمان.
أتدرين ما أقسى ما في الأمر؟ أن أكون خضراء... لكنني أعيش موتاً رمادياً لا نهاية له.
تعز (بصوت منهك)
ورغم كل ذلك، ما زلتِ أنتِ أنا، وأنا أنتِ.
يجمعنا هذا الجرح اليماني الممتد من صنعاء إلى عدن، ومن صعدة إلى المهرة.
لا تركعي يا إب. يكفي أن تبقي واقفة، حتى وإن انحنينا من التعب.
إب
سنلتقي ذات فجرٍ لا يحمل فيه العسعس سلاحاً، وتكتب البنادق استقالتها، وتعود أفراحنا من المنفى.
فأرجوكِ يا تعز، ابقي على قيد الجمهورية والمقاومة، لأني أستمد صبري من صمودكِ.
تعز
سأبقى، لا لأجل نفسي فقط، بل لأجلكِ، ولأجل كل من رحل ولم يسكت، وكل من بقي ولم ينسى.
(حين تتحدث إب وتعز يصمت العالم ليستمع إلى وجع اسمه اليمن)