الجنوب.. بين التنوع السياسي ومخاطر الإقصاء

في حياة الشعوب، تمر لحظات فارقة تتطلب من النخب السياسية أن ترتقي إلى مستوى اللحظة، وأن تتسع رؤاها لاستيعاب التعدد والتباين، لا أن تنكفئ على نفسها وتغلق الأبواب في وجه الآخر. غير أن ما يطفو أحيانًا على سطح المشهد السياسي، يكشف عن عقول تضيق بالأفق الوطني الرحب، وتحاول أن تختزل الوجود السياسي والاجتماعي في إطار ضيق لا يتسع إلا لرؤيتها ولا يسمع الا لصداها.

ما نراه اليوم من بعض الأصوات داخل المجلس الانتقالي الجنوبي ليس مجرد اختلاف في الرأي أو تباين في المواقف، بل هو تعبير عن حالة من النزغ السياسي الذي يضرب بجذوره في عمق الأزمة، حين تتحول السياسة من فن إدارة التنوع إلى نزعة إقصائية متعالية. فبدلًا من بناء جسور الشراكة، يختار البعض أن يقيم الأسوار، وأن يضع نفسه في موقع الوصي على الآخرين، ناسيًا أن الجنوب، بتاريخه وتضحياته، ليس حكرًا على أحد، ولا يُختزل في مكوّن أو تيار بعينه.

هذا الخطاب المتعالي، الذي يطل علينا بين الحين والآخر، يعكس ازدواجًا واضحًا في الموقف: يريد أصحابه أن يكونوا جزءًا من الدولة، وفي الوقت ذاته لا يؤمنون بمؤسساتها، ولا يحترمون مرجعياتها، ويشككون في كل ما لا يتوافق مع رؤيتهم. إنها حالة من الفصام السياسي، لا يمكن أن تنتج مشروعًا وطنيًا جامعًا، بل تزرع بذور الفرقة، وتغذي نزعات الانقسام التي طالما دفع أبناء الجنوب  ثمنها غاليًا.

ولعلّ تصريحات الأخ العزيز عمرو البيض الأخيرة  مثالًا واضحاً على هذا المنزلق. أن يُستفز لأن مكونًا سياسيًا احتفل بثورتي سبتمبر وأكتوبر — وهما مناسبتان وطنيتان مجيدتان في الذاكرة اليمنية الجامعة على حد سواء — فيخرج ليعلن أننا “دولتان وشعبان”، "وأن نشاط حزب الاصلاح في حضرموت يعد تدخلاً أجنبياً في الشأن الجنوبي كونه حزباً شمالياً"!!!

إن خطورة هذا الخطاب لا تكمن في قصوره وحدّته فحسب، بل في ما ينطوي عليه من نزوع لتجريف الحياة السياسية، وإعادة إنتاج آليات الإقصاء التي خبرناها في تجارب سابقة، إن هذا الخطاب ليس رأيًا سياسيًا عابرًا، بل تجلٍ لعقلية وصاية تستبطن نزعة استعلاء، وتردد أصداء مقولة فرعونية شهيرة: “ما أريكم إلا ما أرى، وما أهديكم إلا سبيل الرشاد.”

والمفارقة أن الجنوب قد عانى من هذا السلوك الاستبدادي بالأمس، واليوم ترى البعض يعيد إنتاجه بوجه آخر.

إنها ذات العقلية الإقصائية التي مارستها سلطات الولاية والاصطفاء في صنعاء، حين جرّفت الحياة السياسية، وصادرت الحريات، واحتكرت الحقيقة والرأي والقرار. 

المشكلة ليست في الخلاف السياسي، فذلك أمر طبيعي في المجتمعات الحية، بل في الطريقة التي يُدار بها هذا الخلاف؛ بين من يرى التعدد مصدر قوة وإثراء، ومن يتعامل معه كتهديد يجب تهميشه أو محوه. وإذا ما استمر هذا النهج الإقصائي في الجنوب، فإنه لا يهدد فقط التوازنات السياسية الراهنة، بل يمس جوهر الشراكة الوطنية التي تشكلت عبر سنوات من النضال، وتجسدت واقعاً بعد اتفاق الرياض وإعلان نقل السلطة الذي أرسى أسس هذه الشراكة.

إن الجنوب ليس فراغًا سياسيًا، ولا أرضًا بورًا تنتظر من يزرع فيها رؤيته الخاصة. إنه فضاء رحب، متنوع، صاغته أجيال من التضحيات، ولا يحق لأي طرف أن يختزله في ذاته. فالدولة لا تقوم على نزعات الاستعلاء، بل على الاعتراف المتبادل، واحترام التعدد، والاحتكام إلى مرجعيات وطنية جامعة.

إن اللحظة الراهنة تفرض على الجميع — داخل الانتقالي وخارجه — أن يراجعوا خطابهم ومواقفهم، وأن يدركوا أن الإصرار على اختزال الجنوب في رؤية واحدة لن يقود إلا إلى العزلة والتشرذم، بينما الطريق إلى المستقبل يمر عبر الاعتراف بالآخر، وتوسيع دائرة الانتماء، لا تضييقها. فالتاريخ لا يرحم من يكرر أخطاء الأمس، ولا يغفر لمن يتعامى عن دروسه.

اخيراً.. لقد انتهى زمن الوصاية على الجنوب وأبنائه بكل مكوناتهم وتنوعهم، فإرادتهم الحرة اليوم هي المرجعية الوحيدة لصياغة الحاضر وبناء المستقبل، بعيدًا عن أي وصاية أو إقصاء من أحد.