من كهنوت أوروبا إلى كهوف صعدة.. شعلة الحرية تواصل إسقاط الوصاية (تقرير)
_*تقرير خاص يستعرض تشابه النماذج الكهنوتية عبر التاريخ، من محاكم التفتيش إلى وصاية العمامة، ويكشف رمزية سبتمبر كحالة متجددة للتحرر من الاستبداد الديني والسياسي.*_
ألف عام وتزيد، خلاصة الهيمنة الكهنوتية في أوروبا، حيث تحولت الحياة خلال العصور الوسطى إلى جحيم بسبب سيطرة الكهنة شبه الكاملة على مختلف جوانب الحياة. احتكر الكهنة تفسير الدين والمعرفة، واعتبروا أنفسهم ظل الله على الأرض والوحيدين المحصور عليهم فهم النصوص المقدسة وتفسيرها، وغفران الذنوب لا يتحقق إلا عبرهم، كان الرأي ما يراه الكاهن، وأي مخالفة أو دعوة للعلم والحرية تسمى "هرطقة"، فأنشئت محاكم التفتيش لمعاقبة المتهمين بها كالسجن والتعذيب والإعدام، وهكذا سيطروا على دين الناس ودنياهم، مدعين أن طاعتهم واجبة لأنها طاعة لله، وهو الأمر الذي بموجبه أطلق المؤرخون على تلك الفترة لقب "عصور الظلام"، نتيجة لما سادها من الخرافات والقمع والجهل والتخلف مقارنة بما جاء بعدها.
في كتابها الصادر لأول مرة عام 1960، بعنوان "شمس العرب تسطع على الغرب"، أوضحت المستشرقة الألمانية زيغريد هونكه كيف أن أوروبا ما بعد العصور الوسطى استعادت نور المعرفة والعلوم من العرب الذين كانوا في ذروة تألقهم العلمي والثقافي سواءً في الشرق أو الغرب وعلى رأسها الأندلس التي دخلوها في القرن الثامن الميلادي.
ومن عجائب الأقدار، أن الدولة الإسلامية التي كان هذا حالها، قد شهدت في فترات من تاريخها نماذج كهنوتية مشابهة للنموذج الأوروبي، تكررت في تسلسل زمني وامتدادات جغرافية متعددة..
في اليمن مثلاً، تزامنت نماذج كهنوتية أبشع فكراً وأوسع إجرامًا، سواءً عبر العقيدة أو السلوك، مثل احتكار الحكم في البطنين وفرض الوصاية على الناس باسم العصمة أو النسب أو الفقه، أو ممارسات الإجرام والقمع وفرض الجهل والطبقية والتخلف والعنصرية، حتى وصل بهم الحال إلى امتلاك رقاب الناس ومشاركتهم في أموالهم وممتلكاتهم، تحت مسميات وفتاوى دينية باطلة.
في أواخر القرن التاسع الميلادي، الذي كانت فيه أوروبا في أشد عصورها ظلامًا، بدأت في شمال اليمن ملامح أول نظام إمامي زيدي له طابع كهنوتي، ظلّ تأثيره قائمًا قرونًا طويلة، وامتدت جذوره الفكرية حتى وصلت إلى العصر الحديث مع الجماعات التي تعتبر نفسها امتدادًا لذلك الإرث، وعلى رأسها الحوثيون.
ويظل الكهنوت مرفوضًا قديمًا وحديثًا، إن بعباءة المسيحية أو بعمامة الإسلام الشيعي، وسواء قدم من أوروبا أو من صعدة، ذلك أن النفوس الحرة والفطرة السوية تأبى الفكر المغلوط والممارسات الكهنوتية التي تحكي نفس القصص والغصص وكثرة الضحايا في تشابهها على مختلف هذه المستويات.
على سبيل المثال، يتجلى الرفض الشعبي للكهنوت في القطيعة التي تشهدها البلاد لذكرى النكبة الكهنوتية الجديدة المتمثلة في الانقلاب الحوثي على الجمهورية اليمنية في الحادي والعشرين من سبتمبر من العام 2014م، وذلك مقابل الالتفاف الجماهيري الواسع حول ذكرى السادس والعشرين من سبتمبر المجيد.
وهكذا، حين يلتئم الجرح ويتوقف النزيف وتثمر التضحيات ويكون الخلاص، فإن سبتمبر هو العنوان والعهد الذي قطعه اليمنيون على أنفسهم في مواجهة الإمامة بعد أن نجوا ونجحوا في إنهاء مأساتها الطولى وعهدها القديم في الثاني والعشرين منه في العام 1962م.
وفي حين مثل الكهنوت مشكلة تاريخية متكررة، مثل سبتمبر رمزا للخلاص، ففي السياق الأوروبي، شهد سبتمبر في ألمانيا نجاح "مارتن لوثر" بترجمة العهد الجديد "الإنجيل" إلى الألمانية، فيما سمي بـ"ترجمة سبتمبر" أو "عهد سبتمبر" ونشرت لأول مرة في سبتمبر 1522 في مدينة فيتنبرغ، الأمر الذي مثل تحولًا في الحرب على الكهنوت الكنسي هناك.. وفي فرنسا، توج نضال الفرنسيين بإعلان الجمهورية الفرنسية الأولى في 21 سبتمبر 1792، ممثلًا نهاية الكهنوت الكنسي والملكي هناك.
أما في اليمن، فقد شهد التاسع عشر من سبتمبر 1962م هلاك الكاهن أحمد حميد الدين، وبعدها بيومين، وفي الحادي والعشرين من سبتمبر -وهو التاريخ الذي حاول فيه الإماميون الجدد إعادة ظلمات تلك الحقبة إلى البلاد- تشير بعض المصادر التاريخية إلى أنه تم تنصيب محمد البدر رسميًا كإمام بعد والده، إلا أن الجمهورية العربية اليمنية كانت تصاغ من عزائم الأبطال الأحرار، وتستعد بنادقهم لرسم نهاية الكهنوت الإمامي والملكي معا، وهو ما تم لاحقًا بنجاح الثورة وإعلان الجمهورية العربية اليمنية في 26 سبتمبر 1962.
إلى هنا لم ينتهِ الكهنوت ولم تكن الخلاصة، فقد حاول العودة طيلة السنوات اللاحقة فاستحالت عليه، ونجح الجمهوريون في ترسيخ دعائم الجمهورية، والتخفف من وطأة التخلف وحمولات الجهل والفقر والمرض التي أثقلت الكواهل، وبدأت الجمهورية اليمنية مشوار المنجزات والتحولات الكبرى في التحرر من الاستبداد والاستعمار، وبناء جيش قوي، وتحقيق أهداف الثورة وصولًا إلى إعلان الوحدة اليمنية وحجز مكانها المحترم على المستوى الوطني والإقليمي والدولي.
وللأسف، لم يكمل اليمن نصف قرن من تأسيس جمهوريته وربعًا على توحيده حتى نخرته سوس الإمامة والعمالة ودابة الكهف، بالانقلاب على الجمهورية، وهو الأمر الذي لا يزال يأباه الأحرار وتثبت الأحداث رفضه وتصوغ الأقدار رحلة الخلاص منه، ويتطلع الشعب إلى القضاء عليه بفارغ الصبر، آملا في استعادة الدولة التي نهشت جسدها أشباح الخرافة والخلافة والكهنوت.
ومع اقتراب العيد الوطني الثالث والستين لثورة السادس والعشرين من سبتمبر المجيد، لا تزال جذوة الجمهورية متقدة في صدور الأحرار، وشعلتها تتوهّج كلما حاول الكهنوت أن يعيد إنتاج ظلامه.. فسبتمبر لا ولم يكن مجرد محطة تاريخيه وانتهت، إنما وعي متجدد وميثاق خالد، وعهد على ذمم الأحرار في مختلف جهات وجبهات الوطن. وكما سقط الإمام بالأمس تحت ضربات الثوار، ستسقط اليوم أيضًا كل مشاريع الكهنوت الطائفية، مهما تلونت أو خادعت بشعاراتها، فالشعب الذي كسر الوصاية مرة، لن يقبل بإحيائها من جديد تحت أي راية أو لافتة. وما دام في اليمن أحرار يرفضون الخرافة ويقاومون الوصاية، فستبقى الجمهورية راسخة عصية على الاجتثاث، وأبقى من كل إمامة عابرة.