المغيّبون في ظلام السجون.. صرخة العدالة المؤجلة في اليمن

*في بلد تتداخل فيه الحرب مع الصمت، وتذوب فيه الحقوق بين شعارات السياسة، يقف اليمن على شفا كارثة إنسانية تتجاوز الجوع والدمار، لتصل إلى عمق الكرامة الإنسانية المغتصبة. ليست السجون وحدها ما يُغلق في وجه الحقيقة، بل أيضاً أفواه الضحايا وقلوب الأمهات التي أنهكها الانتظار. في هذا التقرير، نسلط الضوء على مأساة المختطفين والمخفيين قسراً في اليمن، وعلى التقصير الصارخ، المحلي والدولي، في حماية أبسط الحقوق الإنسانية. كما نوجه نداءً واضحاً للمنظمات الحقوقية بأن تعيد النظر في دورها، لا كمراقب محايد، بل كفاعل حقيقي في معركة لا تحتمل الحياد: معركة العدالة.*

في اليمن، الليل ليس مجرد غياب للشمس، بل غياب للعدالة أيضاً. خلف الجدران العالية وفى أقبية السجون، أرواح معلقة بين الحياة والموت، وأمهات يقفن على أبواب الرجاء، يترقبن خبراً يبدد ليل الانتظار الطويل. هناك وجوه غائبة، وأسماء حُذفت قسراً من دفاتر الحياة، وأطفال يكبرون بلا حكايات آبائهم، ولا دفئ أحضانهم.

اليمن اليوم ليس بحاجة إلى مزيد من البيانات الباهتة أو الإعلانات الموسمية، بل إلى عمل حقوقي وإنساني حقيقي يعيد الاعتبار لمعنى العدالة ويضع حداً لمأساة المختطفين والمخفين قسراً في السجون.

 آلاف الأسر تعيش على أمل عودة أبنائها، وأطفال يكبرون بلا آباء، ونساء ينتظرن خبراً قد يبدد رعب المجهول.

إن الدور الذي يجب أن تلعبه المنظمات الحقوقية والإنسانية محلية كانت أم دولية  لا يقتصر على جمع الشهادات ونشر التقارير. فالمهمة أعمق وأخطر هي أن تكون صوت الضحايا أمام العالم، ووسيلة ضغط حقيقية على كل الأطراف التي تمارس الانتهاكات أو تتغاضى عنها.

 يجب أن تتحول هذه المنظمات من متفرج إلى فاعل، من مراقب إلى محرك للرأي العام والقرار الدولي.

العمل الحقوقي الفاعل يبدأ من الداخل، من بناء منظومة رصد مهنية محايدة، قادرة على توثيق الانتهاكات وفق معايير دقيقة، بعيداً عن الاصطفافات السياسية أو الانحيازات الأيديولوجية. يجب أن تكون هذه المنظمات مستقلة فعلاً، بعيدة عن تبعية أي طرف من الأطراف ولا أدوات لتبرير الجرائم تحت مسمى "تقارير حقوقية". 

استقلاليتها هي رأسمالها الوحيد، وفقدانه يعني سقوطها الأخلاقي قبل سقوطها المهني.

أما المنظمات الدولية، فقد آن لها أن تراجع شراكاتها المحلية بجدية، وأن تضع آليات صارمة لمراقبة الأداء والتأكد من أن التمويلات والمشاريع تصب فعلاً في خدمة الضحايا، لا في خدمة أجندة ضيقة. دورها لا ينبغي أن يتوقف عند إصدار بيانات القلق، بل عليها أن تفعّل أدوات الضغط الدبلوماسي والسياسي، وتطالب بفتح السجون أمام لجان تحقيق دولية محايدة، وأن تربط أي دعم أو تمويل بالتزام حقيقي بمعايير حقوق الإنسان.

المدافعون عن حقوق الإنسان في اليمن بحاجة إلى حماية ودعم لا إلى بيانات تعاطف عابرة. يحتاجون إلى شبكات تواصل دولية، إلى تدريب وتأهيل، إلى ضمانات تحميهم من الانتقام، وإلى منصة تُمكّن أصواتهم من الوصول إلى قاعات صنع القرار العالمي.

العدالة ليست شعاراً، بل مسؤولية. والسكوت على استمرار الاختطافات التعسفية هو خيانة لجوهر العمل الحقوقي والإنساني. على هذه المنظمات أن تعيد تعريف دورها اليوم قبل الغد، وأن تتذكر أن كل يوم تأخير يعني مزيداً من المعاناة ومزيداً من الأرواح التي تُحطم بصمت خلف الجدران.

لقد آن الأوان لأن نسمع صوت هذه المنظمات ليس كهمس باهت في بيانات صحفية، بل كصرخة مدوية تضع حداً لهذه المأساة، وتعيد الثقة إلى اليمنيين بأن العالم ما يزال قادراً على نصرة المظلومين، وأن العدالة، مهما طال انتظارها، لا تموت.

ثم يأتي السؤال الجوهري عن الدور الفعلي والحقيقي الذي يجب أن تلعبه هذه المنظمات، إذ لم يعد مقبولاً أن تبقى رهينة ردود الفعل أو أسيرة للتمويلات المشروطة، بل عليها أن تعيد وصل ما انقطع بينها وبين الضحايا الذين تمثلهم. لا يكفي أن تكون المنظمات الحقوقية شاهدة على الألم، بل يجب أن تكون قوة فاعلة تُعيد تشكيل الوعي وتضغط من أجل كسر دائرة الإفلات من العقاب. فالمختطفون والمخفيون قسراً لا يحتاجون إلى بيانات باردة، بل إلى جهد حقيقي يفتح الأبواب الموصدة ويعيد إليهم حريتهم وكرامتهم. حين تصبح هذه المنظمات ضمير العالم وصوت المظلومين، يمكن حينها القول إن العدالة بدأت تسلك طريقها إلى اليمن.