الدولة الغائبة.. كيف أسقطت المحاصصة ما تبقى من الشرعية في اليمن؟

ليس ما يعيشه اليمن اليوم مجرد صراع مسلح بين انقلاب في الشمال وتمرد في الجنوب، بل هو في جوهره أزمة دولة فقدت معناها قبل أن تفقد جغرافيتها، وانكسار مشروع وطني جرى تفريغه تدريجياً من مضمونه حتى باتت الشرعية نفسها عنواناً بلا مضمون، وإطاراً بلا وظيفة، وسلطةً بلا سلطة.

منذ اللحظة التي عجزت فيها الحكومة الشرعية عن إسقاط الانقلاب الحوثي واستعادة الجمهورية، ثم فشلت لاحقاً في الحفاظ على ما تبقى من ملامح الدولة والوحدة في الجنوب، دخل اليمن مرحلة الانهيار المركّب؛ انهيار القرار، وانهيار المؤسسة، وانهيار الثقة، وصولاً إلى انهيار الفكرة الجامعة للدولة ذاتها. ولم يكن هذا الانهيار وليد قوة الخصوم وحدهم، بقدر ما كان نتيجة مباشرة لضعف الداخل، وسوء الإدارة، واختزال الدولة في معادلات محاصصة وتقاسم نفوذ.

لقد تحوّل المجلس الرئاسي، الذي أُعلن عنه بوصفه أداة إنقاذ ومرحلة انتقالية لإعادة توحيد القرار، إلى نموذج هشّ يعكس عمق الأزمة بدلاً من معالجتها.

مجلس تأسس على قاعدة التوازن لا الكفاءة، وعلى فكرة تقاسم النفوذ لا توحيد الرؤية، فحمل في بنيته بذور فشله منذ اليوم الأول.

لم يكن مجلساً لقيادة دولة في زمن حرب، بل إطاراً لتجميد الصراع بين مكونات متناقضة، لكل منها مشروعه وأجندته وحساباته الخاصة.

أما الحكومة، التي يفترض أنها الذراع التنفيذية للدولة، فقد تحولت إلى كيان مُثقل بالمحاصصة، تُدار فيه الوزارات والمؤسسات باعتبارها إقطاعات سياسية، لا أدوات خدمة عامة.

لم تعد الوزارة مسؤولية وطنية، بل حصة حزبية، ولم يعد المنصب تكليفاً، بل غنيمة، ولم تعد الدولة مشروعاً جامعاً، بل مساحة لتصفية الحسابات وتغذية إرث الصراع.

في هذا السياق، فقدت الإصلاحات معناها. كل ما قُدّم من إصلاحات سياسية أو اقتصادية أو أمنية لم يتجاوز كونه ترقيعاً هشّاً فوق جراح عميقة. إصلاحات بلا رؤية شاملة، وبلا إرادة سياسية حقيقية، وبلا استعداد لمواجهة جذور الخلل.

جرى الحديث عن إعادة هيكلة، وعن مكافحة فساد، وعن إصلاح مؤسسات، لكن الواقع ظل أسيراً لشبكات المصالح، ولمنطق التسويات المؤقتة، ولخوف مزمن من كسر معادلات النفوذ القائمة.

وهكذا، لم تعد الدولة قادرة على أداء وظائفها الأساسية.. لا سيطرة على الأرض، ولا احتكار للسلاح، ولا إدارة موحدة للموارد، ولا سياسة خارجية تعكس قراراً سيادياً مستقلاً.

وفي ظل هذا الفراغ، تمددت المشاريع الصغيرة، وبرزت الكيانات الموازية، وتحوّل الجنوب إلى ساحة صراع نفوذ، كما تحوّل الشمال إلى كيان مغلق بقبضة انقلابية، بينما وقفت الشرعية في المنتصف، عاجزة عن الحسم، ومترددة في المواجهة، ومكبلة بتناقضاتها الداخلية.

الأخطر من كل ذلك أن هذا النموذج الفاشل لم يقدّم حتى الحد الأدنى من الأمل لليمنيين.

لم يرَ المواطن في المجلس الرئاسي ولا في الحكومة أنموذجاً مختلفاً عمّا سبق، بل إعادة إنتاج للأزمة بلغة جديدة. سلطة تتحدث باسم الدولة لكنها لا تمارس سلطتها، وتدّعي تمثيل الوطن بينما تعجز عن الدفاع عن رمزيته، وتطالب بالدعم الدولي في حين تفشل في بناء جبهة داخلية متماسكة.

إن ما أوصل اليمن إلى هذه الحالة ليس فقط انقلاب الحوثي ولا شوكة الانتقالي، بل غياب مشروع وطني جامع داخل معسكر ومكونات الشرعية نفسها.

مشروع يتجاوز الأحزاب، ويتخطى الحسابات المناطقية، ويعيد تعريف الدولة باعتبارها عقداً اجتماعياً لا غنيمة حرب. فالدولة لا تُدار بالمحاصصة، ولا تُبنى بالتوازنات الهشة، ولا تُحمى بتعدد مراكز القرار.

لقد آن الأوان للاعتراف بأن الأزمة اليمنية لم تعد أزمة خصوم فقط، بل أزمة بنية حكم، وأزمة رؤية، وأزمة شجاعة سياسية.

شجاعة الاعتراف بالفشل، والقدرة على تفكيك منظومة المحاصصة، وإعادة الاعتبار لمفهوم المسؤولية الوطنية، وبناء مؤسسات على أساس الكفاءة والنزاهة والولاء للدولة لا للفصيل.

من دون ذلك، سيظل اليمن يدور في حلقة مفرغة، تتغير فيها الوجوه وتبقى السياسات، وتتبدل الشعارات وتستمر الممارسات، وتُرفع رايات الجمهورية والوحدة بينما تُفرغ من مضمونها على الأرض.

وسيظل المجلس الرئاسي نموذجاً انتقالياً بلا انتقال، وحكومة بلا حكم، ودولة بلا دولة.

إن استعادة اليمن لا تبدأ من إسقاط الانقلاب وحده، ولا من احتواء فصيل الانفصال فقط، بل من إسقاط نموذج الفشل ذاته، وبناء شرعية حقيقية تستمد قوتها من الداخل قبل الخارج، ومن المواطن قبل الإقليم، ومن الدولة بوصفها قيمة ومعنى، لا مجرد عنوان سياسي في زمن الانهيار.