"يوم الشهيد".. عندما يُجمد الحوثي أحياء اليمن لتقديس سلالة الأموات
في مشهد يتكرر سنوياً ليجسد قمة التناقض بين الخطاب الأيديولوجي والواقع المعيشي، تواصل مليشيات الحوثي الانقلابية احتفالها الصاخب بما تسميه "يوم الشهيد"، مُحولةً هذه المناسبة من ذكرى إلى أداة لشرعنة مشروعها السلالي القائم على الجباية والنهب. وبينما يُنفق على هذه الفعاليات الملايين من الأموال المنهوبة من موارد الدولة، يرزح ملايين اليمنيين تحت خط الفقر والجوع، في ظل انقطاع للرواتب وتدهور غير مسبوق للخدمات الأساسية.
تعتمد المليشيات الحوثية على هذا اليوم، المستوحى من الثقافة الخمينية الإيرانية، كموسم حصاد أيديولوجي ومالي، حيث يتم تضخيم صور القتلى وتأليههم، في محاولة واضحة لتكريس مفهوم القدسية السلالية وربطها بالقتال في صفوف المليشيا.
يتم ذلك عبر استغلال شامل لكل موارد الدولة، بما في ذلك إيرادات الجمارك والضرائب، حيث تفرض المليشيات جبايات غير قانونية ومضاعفة على التجار والشركات، وتُوجّه هذه الأموال مباشرة لتمويل الحملات الإعلامية الضخمة، وتزيين الشوارع والساحات بأعداد هائلة من اللافتات واللوحات الجدارية. وكذا إيرادات الاتصالات والمشتقات النفطية، التي أصبحت مصدراً رئيساً لاقتصاد الحرب الموازي الذي تديره المليشيا، بعيداً عن الرقابة، ويُصرف جزء كبير منه على إقامة الفعاليات المركزية والأمسيات الثقافية التي تُدار بشكل إجباري ومكثف.
في هذا السياق، تؤكد مصادر اقتصادية في صنعاء أن تكلفة الاحتفالات الحوثية تتجاوز بكثير مبالغ كان يمكن أن تُستخدم لصرف جزء من رواتب الموظفين المدنيين الموقوفة منذ سنوات، أو تحسين الخدمات المتردية، ما يفضح أولويات الحوثيين التي تضع الاحتفال بمشروعها فوق حياة المواطنين.
رواتب مجمّدة مقابل بذخ
إن الاحتفال بما يسمي "يوم الشهيد" لا يتم في فراغ، بل في ظل وضع معيشي يصفه اليمنيون بالكارثي، حيث تتجلى المفارقة المُرّة بين فخامة الاحتفال ومعاناة الناس.
يضطر الموظف الحكومي، المعيل لأسرته، للعيش على نصف راتب غير منتظم أو من دون راتب على الإطلاق، لكنه يُجبر في ذات الوقت على المشاركة في الحملات الحوثية لدعم "المجهود الحربي" وتمويل فعالياتهم الأيديولوجية.
عدا عن تدهور القوة الشرائية، إذ تشير تقارير دولية إلى أن أسعار السلع الغذائية الأساسية ارتفعت بنسب جنونية في مناطق سيطرة الحوثيين، ما دفع بملايين الأسر إلى اتباع استراتيجيات تكيف قاسية كالاستغناء عن بعض وجبات الطعام، في الوقت الذي تشهد فيه الأسواق جبايات متصاعدة لتمويل المناسبات.
"تجميد الأحياء"..
يرى مراقبون أن المليشيا تمارس عملية تجميد شاملة لحياة المواطنين: تجميد للرواتب، تجميد للخدمات، وتجميد للكرامة الإنسانية، مقابل "تأليه" لأموات سقطوا في حرب عبثية تخدم مشروع سلالي كهنوتي، وكأن المواطن الحي يجب أن يبقى فقيراً وصامتاً ليتمكن القتيل الصريع من نيل القداسة الحوثية.
أداة لإعادة بناء الذاكرة وطمس الهوية
بالإضافة إلى الجباية المالية، يُستخدم يوم الشهيد الحوثي كأداة رئيسة في مشروع الحوثي الأيديولوجي الهادف إلى طمس الذاكرة الوطنية اليمنية واستبدالها بسردية الولاية والإمامة الجديدة. فمن خلال تضخيم رموزها وتهميش الأعياد الوطنية والجمهورية، تحاول المليشيات إحلال ثقافة الخرافة والكهنوت محل ثقافة الجمهورية والمواطنة، لتكريس حكم سلالي لا يعترف إلا بالولاء المطلق لقائد الخرافة والمشروع السلالي.
ولذا يمثل احتفاء مليشيا الحوثي بيوم الشهيد وجهاً آخر للاستغلال المزدوج: استغلال لموارد الدولة المنهوبة، واستغلال للمأساة الإنسانية التي يعيشها اليمنيون، ليصبح هذا اليوم دليلاً قاطعاً على أن مشروع الحوثي ليس مشروع دولة، بل مشروع فئة تستنزف البلاد والعباد لتعميق نفوذها الأيديولوجي والسلالي على ركام من الجوع والمعاناة.