محكمة الترندات
في العصور السابقة، كان الإنسان إذا أخطأ يُقاد إلى ساحة القضاء، فيقف أمام قاضٍ من لحم ودم، يسمع الحُجة، ويزن الكلمة، ويُصدر حكمه باسم القانون.
كان للحقيقة وقتها منطقها، وللعدالة هيبتها أيضاً.
أما اليوم، فقد تبدلت الموازين، وأصبح القضاء الحديث يجري في فضاء بلا سقف، تحكمه الحشود وتُصدر أحكامه عبر الشاشات.
لقد وُلد أمام أعيننا كيان جديد لا يخضع لأي دستور ولا يعترف بأي معيار سوى الصخب "محكمة الترندات".
في هذه المحكمة العجيبة، لا يحتاج الناس إلى أدلة ولا إلى شهود، بل يكفي أن يشتعل وسم واحد، حتى تُفتح الجلسة ويُستدعى المتهم، سواءً كان سياسياً أو فناناً أو مواطناً عادياً كتب جملة في غير وقتها.
يجلس القاضي خلف شاشة هاتفه، لا يرى المتهم ولا يسمعه، لكنه يصدر حكمه بلمسة إصبع، يقرر من هو الصادق ومن هو الكاذب، من يستحق الإعجاب ومن يجب أن يُلغى.
هنا لا تُقاس القضايا بعمقها، بل بعدد المشاهدات والتعليقات. لا قيمة للمنطق إذا لم يحظ بتفاعل واسع، ولا معنى للحقيقة إن لم تصنع “ضجة”.
لقد تحولت العدالة إلى مشهد جماهيري، والفضيحة إلى سلعة يومية تُباع في سوق المنصات. في خضم هذا الصخب، يغيب صوت العقل، وتتراجع الأخلاق أمام اندفاع الغضب الجماعي، حتى بات الإنسان يخاف أن يتحدث، لا لأن في حديثه خطأ، بل لأن الترند قد يرفضه.
إن محكمة الترندات ليست ظاهرة رقمية فحسب، بل انعكاس لحالة اجتماعية ونفسية عميقة يعيشها الإنسان المعاصر.
لقد أفرزت التقنية واقعاً جديداً جعل من كل فرد قاضياً وجلاداً في آنٍ واحد. نمارس الحكم على الآخرين بلا تمهل، ونُصدر إداناتنا بناءً على انطباعات خاطفة، ثم نمضي كأن شيئاً لم يكن.
لا نتأمل، لا نراجع أنفسنا، ولا نمنح أحداً فرصة لشرح موقفه أو تصحيح خطئه.
وهكذا، أصبح المجتمع يراقب ذاته بعين الخوف. الجميع حذرون من الكلمة، متوجسون من النية، خائفون من أن يُساء فهمهم أو يُقتطع كلامهم من سياقه.
هذه الرقابة الجماعية التي يمارسها الناس على بعضهم أخطر من أي سلطة سياسية؛ لأنها لا تُصادر الكلمة فحسب، بل تُخيف الضمير قبل أن يتكلم.
لقد صار الغضب مقياساً للوعي، والعدد دليلاً على الصواب.
وكأن الحقيقة لم تعد مسألة فكر وتحليل، بل نتيجة تصويت جماهيري يحدده المزاج اللحظي للناس.
في هذا المناخ الموبوء بالتسرع، تُشوه المفاهيم الكبرى للعدالة والحرية، وتُختزل الإنسانية في لقطات مجتزأة، لا ترى من الواقع إلا ما يثير الانفعال.
إن أخطر ما في محكمة الترندات أنها تُميت فينا معنى الحوار.
فالناس لا تريد أن تفهم، بل أن تحكم. لا تبحث عن المعنى، بل عن الموقف. ومن يقف في المنتصف يُدان، ومن يفكر بصوت مختلف يُقصى، ومن يحاول تهدئة العاصفة يُتَّهم بالتخاذل.
هكذا يُسحق الوعي الفردي تحت أقدام الضجيج الجماعي، ويضيع صوت الحقيقة في زحام الأصوات المرتفعة.
لكن الخطر الأكبر لا يكمن في المنصات ذاتها، بل في هشاشتنا نحن.
في هذا الجوع المتزايد إلى الإدانة، وفي هذا الشغف بالفضيحة الذي يُخفي خلفه فراغاً إنسانياً هائلاً.
نُسقط الأشخاص ثم نرفعهم، نُهاجم ثم نعتذر، نلعن ثم نصفق، لا لأننا تغيرنا، بل لأننا نبحث عن حدث جديد يُسكن ضجرنا.
لقد آن الأوان لأن نتوقف قليلاً ونسأل أنفسنا ما الذي يحدث لنا؟
كيف تحولنا من مجتمعات تسعى إلى الفهم، إلى جموع تكتفي بالصوت العالي؟
كيف أصبحنا نُحاكم الناس دون أن نسمعهم، ونفرح بسقوطهم أكثر مما نفرح بتصحيحهم؟
إن المجتمع الذي يقتل الاختلاف لا يصنع وعياً، بل يصنع خوفاً عاماً يزرع الصمت في النفوس.
ما نحتاجه اليوم ليس المزيد من الترندات، بل عودة الروية والاحترام والإنصات. نحتاج إلى أن نستعيد إنسانيتنا قبل أن نُدمن هذا الإعدام المعنوي المتكرر لكل رأي مختلف.
علينا أن نتعلم من جديد كيف نحاور لا كيف نحاكم، كيف نفكر لا كيف نغضب، وكيف ننصت إلى من يخالفنا دون أن نعد ذلك خيانةً أو تهديداً.
إن محكمة الترندات ليست قدراً محتوماً، لكنها إنذار مبكر لما قد نصبح عليه حين تتوحش الجماهير وتغيب الحكمة. فإذا لم نتدارك وعينا، سنجد أنفسنا في عالم يُلغى فيه النور لأن الناس قرروا أن الليل أكثر تفاعلاً.
قبل أن نحكم على أحد، فلنحاكم أنفسنا أولاً.
فلعل العدالة الحقيقية تبدأ حين نكف عن التسرع في إعدام الآخرين… ونبدأ في فهم ذواتنا.