26 سبتمبر.. ثورة تتجدد في مواجهة كهنوت جديد
شكّلت ثورة السادس والعشرين من سبتمبر 1962 منعطفاً تاريخياً فارقاً في مسار اليمن الحديث. ففي فجر ذلك اليوم المجيد، هبّت الإرادة الوطنية لتسقط النظام الإمامي الكهنوتي لبيت حميد الدين، معلنة ميلاد الجمهورية في اليمن، مشروع الدولة الحديثة الذي يقوم على المواطنة والمؤسسات، لا على سلطة وراثية متدثرة بالدين زوراً وبهتاناً.
كانت الثورة بداية عهد جديد فتح المجال أمام إصلاحات تعليمية وإدارية واجتماعية، مهدت لبنية دولة لم يكن لها أن ترى النور في ظل الإمامة التقليدية.
على الصعيد الاجتماعي والتنمية البشرية، حققت الجمهورية إنجازات ملموسة رغم التحديات الكبيرة. فمنذ تأسيسها انطلقت جهود مؤسسية لتوسيع التعليم، وإنشاء المدارس والمرافق الصحية، ومحو الأمية، ومد شبكة طرقات حديثة. وقد شكّل ذلك حجر الأساس لأولويات الحكم الجمهوري.
تشير تقارير تاريخية وتربوية إلى أن التعليم العام شهد توسعاً ملحوظاً في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، مقارنةً بالهامش الضئيل جداً للتعليم النظامي قبل 1962. كما ارتفعت معدلات معرفة القراءة والكتابة لدى الأجيال الشابة بصورة لافتة، حتى باتت الجمهورية عنواناً للنهضة الممكنة.
وتدل الأرقام على حجم الفارق؛ فقد تحسّنت معدلات الإلمام بالقراءة والكتابة بين فئة الشباب (15 – 24 عاماً) بصورة جلية، قبل أن تتعرض هذه المكاسب للتآكل بفعل الانقلاب الحوثي في سبتمبر/ أيلول 2015، إلى درجة أن نصيب الفرد من الناتج المحلي تراجع بشكل حاد، ما انعكس سلباً على الاقتصاد والخدمات والبنية التحتية.
احتكار ونهب
اليوم، تقبع البلاد تحت انعكاسات مدمرة لسياسات مليشيا الحوثي الإرهابية، التي تمثل الامتداد السلالي ذاته للإمامة، وتزعم "الحق الإلهي" في الحكم، وتستحوذ الإيرادات العامة والخُمس من الثروات الخاصة.
وقد أحكمت المليشيا المدعومة إيرانياً قبضتها على مؤسسات الدولة في مناطق واسعة، فارضة نظاماً أشد قسوة من الحكم الذي أسقطته ثورة سبتمبر، يتجلى في احتكار السلطة، ونهب الموارد، وتقويض مؤسسات الخدمات، وقمع الحريات العامة.
وتوثّق تقارير حقوقية رسمية آلاف الانتهاكات التي ارتكبتها الجماعة، من مصادرة موارد الدولة، وابتزاز القطاع الخاص، وتحويل الأجهزة الرقابية إلى أدوات بيدها، إلى جانب اختطاف سياسيين وحقوقيين ومدنيين، وفرض قيود مشددة على عمل المنظمات.
لقد أعادت هذه الممارسات البلاد إلى ما يشبه الحقبة السلالية المظلمة، وهو ما يتعارض كلياً مع روح الجمهورية ومشروعها الوطني المنفتح.
ويرى الكاتب والناشط ناجي بابكر في حديثه لوكالة "خبر" أن معاناة اليمنيين اليوم تتمثل في انعدام الخدمات الأساسية (الكهرباء، المياه، الصحة، التعليم)، وانتشار الفساد ونهب الموارد، وقمع المعارضة والصحافة، وهي سمات تتطابق مع ممارسات الإمامة الكهنوتية.
ويؤكد بابكر، أن الفارق الجوهري هو أن الجمهورية – رغم كل الصعاب – فتحت آفاقاً للتعليم والصحة وبناء مؤسسات عامة استفادت منها أجيال متعاقبة، غير أن هذه المكاسب باتت مهددة بالاندثار ما لم تُستعد الدولة وتُدار مواردها بشفافية.
ومع حلول ذكرى الثورة، يتجدد خوف المليشيا من صحوة الوعي الشعبي، فتشن حملات اختطافات تطال ناشطين وشخصيات اجتماعية وحقوقية، لمجرد منشور قصير على فيسبوك أو حالة واتساب تحتفي بثورة سبتمبر ومكتسباتها.
ولهذا تصاب الجماعة بالذعر من بهجة اليمنيين بذكرى ثورتهم، وتسارع إلى قمع أي مظهر من مظاهر الاحتفاء، لادراكها بأن صحوة الشعب هي الطريق الى اجتثاث اي أنظمة ديكتاتورية، ومثلما استطاع الشعب -آنذاك- الإطاحة بالنظام الامامي بالسلاح التقليدي لا أكثر، بمقدوره أن يطيح بالمليشيا التي تجثم على صدر حقوقه وحريته بما تمتلكه من تسليح وإرادة.
في الوقت نفسه، يؤكد عسكريون وسياسيون لـ"خبر" أن ثورة الـ26 من سبتمبر محطة وطنية خالدة، أثبتت أن تغيير بنية الحكم والانتقال إلى نظام جمهوري مدني أمر ممكن وضروري. مشيرين إلى أن الإنجازات في التعليم والصحة والبنى التحتية بعد الثورة تذكرنا بما هو ممكن حين تكون الدولة في خدمة مواطنيها، بينما تجربة المليشيا الحوثية تبرهن على أن غياب المؤسسات واحتكار السلطة يقود إلى انهيار شامل وتدمير لمستقبل الأجيال.
واليوم، كما بالأمس، يتجدد النداء لاستعادة المشروع الوطني الجامع، القائم على مؤسسات شفافة، وتوزيع عادل للثروات، واحترام حقوق الإنسان، حتى تستعاد مكتسبات الجمهورية كاملةً لصالح الشعب اليمني.
ولذا، سبتمبر ليس ذكرى فحسب، بل هو وعدٌ يتجدد، ورايةٌ لا تنكسر، ودعوة مفتوحة لأجيال اليمن اليوم لاستكمال الطريق، وحماية الجمهورية من مخاطر التفكك والعودة إلى الكهنوت، فالثورة ولدت لتبقى، ولتبقى معها كرامة الإنسان اليمني وحلمه بدولة عادلة لكل أبنائها.