عناد بلا حدود.. قصة اليمن السياسية

في اليمن، العناد السياسي ليس مجرد صفة، بل هو دستور غير مكتوب، وفن يُمارس بعناية منذ عقود. 

كل أزمة وطنية تتحول إلى لوحة فنية معقدة من الرفض والتعنت، كأن البلد مسرح ضخم يُعرض فيه مسلسل لن أتنازل أبداً على مدار الساعة.

لنأخذ على سبيل المثال أي مفاوضات وطنية.. جلسات مطولة، كلمات رنانة، عبارات عن الوطنية والمبادئ، ثم تأتي النتيجة العظيمة… لا شيء! 

الجميع يتحدث عن الحل، لكن أحدهم يرفض، وآخر يصر، وثالث يختلق الأعذار، وكأن كل الاتفاقات صُنعت لتُرمى في سلة المهملات.

الطرف السياسي اليمني يجيد العناد بشكل لا يُصدَّق. حتى لو كانت الحلول جاهزة وواضحة، ستجدهم يتجاهلونها، كما لو كانوا في سباق عالمي على لقب الأكثر تمسّكاً برأيه بلا منطق. 

وفي معظم الأحيان، يبدو أن العناد أصبح هواية وطنية رياضة يمارسها الجميع، من القيادة إلى المرافق، وكل شخص يفتخر بأنه لم يخفّض رأسه أمام الواقع، حتى لو انهار الوطن من حوله.

المواطن اليمني هو المشاهد المتعب في هذه المسرحية، يراقب المشهد اليومي بين الضحك والدموع. 

كل يوم يشاهد أخباراً جديدة عن الصراعات الداخلية، المماطلة، والوعود الفارغة، ثم يتساءل: هل هذا العناد فن أم كارثة؟ الجواب غالباً يأتي مختلطاً... الضحك من شدة العبث، والبكاء من شدة الواقع.

ومن المفارقات الساخرة أن كل موقف سياسي تقريباً يزخر بالمبررات العبثية. "أنا أرفض لأن هذا مبدئي"، "لن أوقع لأنه لم يُراع شعوري"،  "الأرض ملكي وحدي"، "لن أتنازل مهما كانت التضحيات".

 كلمات قد تبدو للوهلة الأولى فلسفية، لكنها في الواقع أدوات دقيقة لتمديد العناد إلى أقصى الحدود، وكأن من لا يرفض، لن يُعتبر سياسياً حقيقياً.

العناد هنا ليس محصوراً  بالسياسة الرسمية فقط، بل يمتد إلى كل زاوية من الحياة العامة.

 في المدارس، في الشركات، في مجالس القات، وفي اللقاءات اليومية، تجد نفس نمط "لن أتنازل"، وكأن الشعب برمته مدرب على فن العناد منذ نعومة أظافره. حتى الأزمة الاقتصادية والسياسية، بدلاً من أن تكون حافزاً للتفاهم، تصبح منصة لتأكيد العناد.

الدهشة الكبرى أن هذا العناد يقاوم كل شيء: الحرب، الفقر، الدمار، وحتى العقل السليم. 

بل إنه يزدهر وسط الصعاب، ويتعلم من كل كارثة ليصبح أكثر صلابة. 

كل أزمة سياسية تتحول إلى لعبة شطرنج عبثية... لا تحريك للقطع قبل أن يضمن كل طرف انتصاره الشخصي، مهما كانت التكلفة على الوطن والمواطنين.

في النهاية، العناد السياسي في اليمن أصبح صناعة وطنية متقنة، فناً يمزج بين العبث والكوميديا السوداوية، ويتطلب مهارة فائقة للبقاء على قيد الحياة. 

المواطن اليمني يتنقل بين الضحك والبكاء، بين الغضب والاستسلام، لكنه يعلم جيداً أن هذا العناد، مهما كانت نتائجه مأساوية، هو جزء من حياته اليومية، وربما سر غريب من أسرار هوية اليمنيين.

هكذا، يعيش اليمنيون في ملحمة مستمرة من الصراع مع العناد، مسرحية بلا نهاية، حيث كل فصل جديد يضيف لمسة كوميدية سوداء، وكل اتفاقية جديدة تتحول إلى نكتة سياسية، بينما تبقى الحياة اليومية صامدة، ضاحكة ومبكية في الوقت ذاته، في بلد أصبح العناد فيه أكثر ثباتاً  من أي قانون أو دستور.