تحويل القلاع إلى ثكنات ونهب آثار سبأ وحمير.. الوجه الآخر لحرب الحوثيين على التراث اليمني
لم يعد الحديث عن تدهور الآثار والمواقع التاريخية في مناطق سيطرة مليشيا الحوثي يقتصر على تبعات الحرب أو سوء الإدارة المعتاد، بل انتقل إلى مستوى الاستهداف الممنهج والمُتعمَّد للتراث والثقافة اليمنية، كجزء لا يتجزأ من مشروع الفكر الطائفي الخميني الأيديولوجي لإلغاء التاريخ والهوية الوطنية الجامعة. ويشير عدد من عمليات الرصد للاعتداءات والانتهاكات إلى تجاوز الحوثيين في عدد المواقع المستهدفة لما سجلته التنظيمات المتطرفة الأخرى، مؤكداً أن مليشيات الحوثي في صنعاء تحولت إلى رأس حربة في "إبادة ثقافية" تستهدف كنوز اليمن القديمة وآثارها الإسلامية غير المتوافقة مع خطابها في معظم المحافظات التي تقع تحت سيطرتها.
إن المسؤولية المباشرة تقع بالكامل على عاتق قيادات المليشيات التي استغلت النزاع لتحويل الإرث الحضاري إلى وقود للصراع ومصدر للتمويل غير المشروع.
تكتيكات الإبادة الثقافية
تتبع مليشيا الحوثي تكتيكات واضحة تهدف إلى تدمير الآثار أو تفريغها من محتواها التاريخي والقيمي، حيث جرى تحويل العديد من القلاع والحصون الأثرية، في صنعاء وإب وتعز وحجة وذمار، إلى ثكنات عسكرية ونقاط تمركز قتالية، وهو ما جعل هذه المعالم أهدافاً مشروعة للاستهداف العسكري المضاد، مما يضمن زوالها كشواهد تاريخية، وهذا التموضع المتعمد يمثل استغلالاً ساخراً للقيمة التاريخية للموقع لتحويله إلى درع أو هدف للتدمير. وفي موازاة ذلك، تؤكد التقارير المحلية والدولية تضاعف عمليات النهب والحفريات غير القانونية التي تُدار عبر شبكات مافيا منظَّمة لتجارة وتهريب الآثار، حيث أشارت مصادر موثوقة ومتخصصة إلى أن هذه التجارة، التي تشمل القطع النادرة من حضارات سبأ وحمير، أصبحت تحت سيطرة قيادات حوثية نافذة تُسهّل خروجها عبر المنافذ غير الخاضعة للرقابة، وهو ما يؤكد أن النهب ليس فوضوياً، بل هو مصدر تمويل غير مشروع يُستخدم لتمويل الأجندة الخاصة بالحوثيين على حساب تفريغ المتاحف والمخازن من هويتها.
تدمير التراث الإسلامي وتغيير هوية المدن القديمة
يتجلى الدافع الإيديولوجي الأعمق لمشروع مليشيا الحوثي في استهدافها المتعمد للمعالم والأضرحة الإسلامية التي تختلف مع توجهها المذهبي، فقد نفذت حملات موثقة لتدمير وتجريف الأضرحة والمزارات والمساجد القديمة، بذريعة محاربة "الشرك والبدع"، وهو ما أضر بآثار معمارية إسلامية نادرة تحمل قيمة تاريخية وفنية تتجاوز الجانب الديني الضيق، لتمثل إبادة ثقافية تهدف إلى فرض هوية قسرية على المجتمع اليمني. كما يُعتبر الإهمال المتعمد لترميم المنازل والمواقع في صنعاء القديمة، ومدن تاريخية أخرى كمدينة جبلة التاريخية بمحافظة إب وإعاقة عمل الجهات الدولية ومنعها من إصلاح المنازل المتضررة، تكتيكاً غير مباشر لتدمير تدريجي لهذه المدن التاريخية المدرجة على قائمة التراث العالمي، حيث يعرض هذا الإهمال آلاف المنازل الفريدة للانهيار، مما يسمح مستقبلاً بتغيير النسيج العمراني للمدن بما ينسجم مع الرؤية الجديدة لها.
عرقلة اليونسكو وتسييس الملف الأثري
إن الموقف المعرقل لمليشيات الحوثي من التعاون الدولي يؤكد نيتها في الاحتفاظ بالسيطرة الكاملة على ملف الآثار واستخدامه كأداة نفوذ، حيث تفرض المليشيا قيوداً غير مبررة على عمل منظمة اليونسكو والمنظمات الأخرى، بما في ذلك التضييق على الخبراء ورفض المشاريع إلا إذا خضعت لإشراف وتوجيه كوادرها الخاصة.
هذا التسييس للملف الأثري يُقوض الجهود الدولية لإنقاذ ما تبقى من المواقع، ويؤكد نية الحوثيين في عزل هذا الإرث الثقافي عن أي رقابة أو تمويل دولي يمكن أن يقيها شر الاندثار، مما يضع اليونسكو أمام تحدٍ كبير للحفاظ على تصنيف صنعاء وزبيد وجبلة على قائمة التراث العالمي في ظل استمرار هذا النزيف وتفاقم الأضرار.
نداء للإنقاذ
ما يحدث في مناطق سيطرة الحوثيين هو جناية متكاملة ضد التاريخ اليمني والإرث الإنساني، حيث لا يكتفي الفاعل بإزهاق الأرواح بل يسعى إلى إزهاق الذاكرة. وتؤكد الوقائع أن المسؤولية التاريخية تقتضي تحركاً دولياً وإقليمياً عاجلاً لوقف هذا التدمير الحوثي المتعمد، وتجريد المواقع الأثرية من أي استخدام عسكري، ومحاسبة القيادات المتورطة في نهب وتهريب الآثار.
إن صون هذا الإرث هو صون للهوية اليمنية المهددة بالإلغاء، ويجب أن يوضع هذا الملف ضمن أولويات أي مفاوضات قادمة، مع دعوة المجتمع الدولي إلى تصنيف هذه الأفعال ضمن جرائم التدمير المتعمد للتراث الثقافي قبل أن تندثر هذه الشواهد على حضارة الأمة إلى الأبد.