من سجون الحوثي إلى منفى الشرعية… رحلة ألم واحدة

كان الوقت قريباً من الفجر حين خرج أحدهم من نافذة صغيرة من بيته في إب. لم يأخذ معه سوى حقيبة خفيفة وهاتف قديم وصورة لأطفاله الأربعة. 
ترك خلفه غرفاً غير مرتبة، فنجان قهوة لم يكمل شربه، وأبواباً تعرف أن آخر من سيطرقها لن يكون صديقاً.
لم يكن الهروب خياراً، بل النجاة الأخيرة التي ساعدته عليها خطوات مرتجفة، وسماء خالية، وخوف يشبه ثقل جبل يحمله على كتفيه.

هو ليس الوحيد. عشرات الصحفيين غادروا بالطريقة نفسها...خروجٌ على عجل، صمتٌ مطبق، وقلوب معلّقة في جهتين. 
جهة يركضون إليها بحثاً عن حياة، وجهة أخرى تركوا فيها عائلاتهم تحت قبضة الحوثيين، حيث يبدأ الخوف من لحظة مغادرة الأب ولا ينتهي عند آخر تهديد يصل إلى باب البيت.

في مدينة تابعة للشرعية، يجلس ذلك الصحفي اليوم على كرسي بلا ظهر في غرفة صغيرة مستأجرة. أمامه طاولة من خشب متهالك، وعلى هاتفه رسائل من زوجته: “الوضع صعب… الأطفال يسألون عنك… الإيجار متأخر… الجيران بدأوا يلمحون… هل ستعود؟”. يقرأ الرسائل مراراً، ثم يضع الهاتف جانباً كمن يضع خنجراً مسموماً ولا يعرف أين يتداوى.

لا رواتب هنا، لا عقود عمل، لا نقابة تحمي، ولا دولة تفتح ذراعيها لمن جاء مثخناً بالخوف. كل ما لديه هو ذاكرة مليئة بصوت صراخ بنيه، وصورة زوجته وهي تحاول أن تبدو أقوى منه رغم كل شيء. في كل مساء، حين تنقطع الكهرباء وتخفت أصوات الشارع، يعود إلى تلك الصورة كأنه يلمس من خلالها شيئاً من وطنه الممزق.

بعض الصحفيين يعيشون أسوأ من ذلك. هنالك من بقيت أسرته كلها في قلب مناطق الحوثيين، تتلقى الإهانات والتهديدات لأنها زوجة أو ابن لصحفي “فارٍّ من العدالة” كما يسمونه هناك. أطفال مُنعوا من المدرسة، نساء طُردن من منازلهن، وآباء وأمهات يعيشون تحت مراقبة عيون لا ترمش. 
وفي الطرف الآخر من البلاد، صحفيٌ يمضي ليله يحسب أنفاس أسرته من بعيد، ويكتب من فوق جرحه تقريراً جديداً عن معاناة غيره، بينما معاناته هو معلّقة بين صدره والسماء.

ورغم كل هذا، لا أحد يسأل عن هؤلاء. الشرعية التي فرّوا إليها لم تقدم لهم حماية، ولا بيوتاً تليق بالناجين، ولا حتى تدريباً جديداً يمكنهم من الوقوف مجدداً على أرجلهم. 
هم يعيشون في ظل لا يشبه الظل، ظل رجلٍ مطارد حتى وهو آمن، وغريب حتى وهو بين أهله.

لكن، وبرغم كل هذا، يواصل كثير منهم الكتابة. يكتبون بنبرة خافتة، يراجعون كلماتهم أكثر مما يراجعون حساباتهم البنكية الفارغة، ويدونون كل قضية كما يسجلون كل ديونهم الكبيرة، ويُدخلون كل جملة إلى غربال الخوف قبل نشرها. 
ومع ذلك، حين يكتبون، يشعرون أنهم ما زالوا أحياء. فالقلم والكلمة بالنسبة لهم ليس مهنة، بل خيط أخير يصلهم بأسرهم ووطنهم والذات التي يحاولون ألا يفقدوها.

قد يعتقد البعض أن قصة الصحفي اليمني هي مجرد حالة إنسانية في زمن الحرب. لكنها في الحقيقة قصة بلد بأكمله. بلد يحاول أن يبقى، فيما أبناؤه الأكثر وعياً يهربون إلى مناطق أكثر جوعاً وأقل أماناً، لأن البقاء تحت سلطة القمع يعني الموت دون شاهد.

في نهاية كل يوم، حين ينطفئ الضوء آخر الليل، يسمع الصحفي اليمني الناجي خيطين من الأصوات... صوت أسرته البعيد وهو يطلب منه أن يصمد، وصوت داخله يسأله إلى متى سيظل واقفاً وحده. ومع هذا، يواصل الوقوف. يواصل الكتابة. 
يواصل حمل الوجع، لأنه يعرف أن الحقيقة لو ماتت، سيموت معها الوطن الذي تركه خلفه… ومعه أولاده.

هؤلاء الصحفيون ليسوا مجرد ناجين. إنهم الناجون بألمهم، الناجون بعائلاتهم المتروكة في فم الخطر، الناجون الذين يكتبون كي لا يموتوا مرة أخرى.