بين زمنين: زمن الدولة وزمن التجارة.. عن الخدمات المعيشية في صنعاء

ماذا لو أعدنا التذكير مجددًا وتحدثنا قليلًا عن خدمات المعيشة في مناطق سيطرة الحوثيين: خدمات الكهرباء والماء والصحة والتعليم، وهي الخدمات التي تجعل الحياة المعيشية للناس ضمن أشكال الحياة البشرية بشكلٍ أخص؛ حياة التحضر والوعي والتقدم ولو في مستوياتها الدنيا. في هذا المقال خلاصة واقعية عن الخدمات المعيشية في الحاضر والماضي، حاضر اليمنيين اليوم، وما عرفوه قبل عقد ونصف من الحقائق المعروفة. 

التعليم.. من مجانية الدراسة إلى تجارة الفصول

في جانب التعليم، صارت المدارس الحكومية اليوم خاوية على حالها، ليس فيها شيء أكثر من مدرسين بائسين وآخرين ينتحلون دور المعلمين المنقذين، وطلابًا يصلون في الثامنة ويغادرون في التاسعة. لقد كان التعليم فيما مضى مجانيًا والكتب مجانية، أما اليوم فأصبحت رسوم المدارس الحكومية في كل فصل دراسي (ترم) 4 آلاف ريال، أي 8 آلاف ريال للعام الواحد، ومن لا يدفع لا يستلم كتبًا ولا يستمر بالدراسة. هذا الأمر أصبح رسميًا ونهائيًا.

إضافة إلى ذلك، تحولت المدارس إلى أماكن للتطييف والتحشيد وتدجيج العقول. لم يعد يدرس فيها سوى الفقراء، وهم -في نظر الجماعة- لا يستحقون التعليم. هذه نظرتهم لما بقي من الناس في الدرك الأسفل من الجوع. انتهى العام الدراسي السابق ولم يتعلم أخي الصغير في مدرسة حكومية أي حرف ولم يكتب أي كلمة، لذا صار إلزاميًا علينا البحث عن مدرسة خاصة بمبلغ مرتفع، خصوصًا وقد تم افتتاح الكثير من المدارس الخاصة في الحي الذي نسكنه. لم تعد هناك أي ضرورة للتعليم الحكومي في زمن "جماعة الحوثيين"، لأنهم ببساطة لن يعلموا أحدًا ولن يقدموا شيئًا غير القتال والموت في سبيلهم. ومن أراد أن يتعلم أبناؤه، فهناك الكثير من المدارس البديلة التي تتبع الجماعة، وإن لم تكن كذلك فهي تدفع الملايين للجماعة مقابل السماح لها بمزاولة العملية التعليمية تحت رقابة مشددة. إنه زمن الجهل والحوثي؛ زمن بائس من اليأس والتجهيل.

جامعات في مهب الريح

في صنعاء، تخضع ست جامعات يمنية خاصة لسيطرة الحوثيين تحت ما يسمى "الحارس القضائي"، بعد أن استولت عليها من ملاكها الأصليين، فارضةً مناهج جديدة، ودورات عسكرية إجبارية ودورات ثقافية دورية، لجميع الطلاب، إضافة إلى فرض موظفين تابعين لها في مفاصل الجامعات، بمن فيهم رؤساء مجلس إدارة ورؤساء إداريون وأكاديميون وعمداء ومشرفون، متسببة في عرقلة العملية التعليمية لمرافق مشاريع تعليمية ضخمة. من ناحية مهمة، يبلغ عدد الجامعات الخاصة الخاضعة للحارس القضائي ست جامعات يمنية، العلوم والتكنولوجيا، الإماراتية، اليمنية، آزال للتنمية البشرية، الناصر، تونتك الماليزية. 

الصحة.. المستشفى العام تحول إلى سوق

أما في جانب الصحة، فزيارة أو إسعاف مريض واحد إلى طوارئ أكبر المستشفيات في العاصمة المختطفة صنعاء، سيعطيك إجابة كاملة عن حقيقة نظرة الحوثيين لحياة الناس وما تبقى في جانب الصحة والمستشفيات. ستصل مثلًا إلى طوارئ مستشفى الثورة العام، وهو أكبر مستشفى حكومي على صعيد البلد، لتجد الجميع يشتكون من عدم امتلاكهم أدنى المستلزمات. عليك أن تشتري الشاش والإبر والأدوية وكل شيء بنفسك، ثم عليك أن "تشتري" ضمير أي ممرض لكي يلتفت إلى مريضك. بعدها تذهب إلى الصيدلية داخل مبنى الطوارئ لتشتري قائمة الأدوية والمتطلبات غالية الثمن. ولو سألت الصيدلي: لماذا تبيعون الأدوية داخل طوارئ مستشفى حكومي؟! سيضحك ويجيبك: لقد أجّروا لنا هذه الزاوية من المستشفى بملايين، ونحن نبيع الأدوية بأسعار أغلى لكي نسدد فاتورة الإيجار. إنه زمن "جماعة الحوثي"، كما يسميه الناس في كل مكان.

بالمناسبة، هناك من بنى مستشفيات حكومية ضخمة ومراكز صحية منتشرة في كل زاوية، لكنها اليوم أصبحت مقابل رسوم مالية وتكاليف مرتفعة، ومن لا يدفع لا يُسمح له بالعلاج. لقد ذهب زمن الأدوية الحكومية والطوارئ الحكومية والأطباء الحكوميين، وجاء زمن التجار والمستثمرين. من أراد العلاج فعليه اللجوء للمستشفيات الخاصة، وهي كثيرة، والكثير منها أُنشئ في عهدهم لأنها ببساطة تتبعهم، ومن لا يتبعهم فعليه أن يدفع الملايين لقاء البقاء. إنه زمن الفقر والجوع والمرض والتجار المستثمرين.

الكهرباء.. تجارة بامتياز

وفي جانب الكهرباء الحكومية، فقد انقسمت خدمات الحوثيين إلى نوعين: نوع يبيع الكهرباء التجارية، وآخر يبيع الطاقة الشمسية. وجميعهم ذوو صلة بالجماعة، وكأنهم وجدوا ليقدموا الخدمات الكهربائية الباهظة. القليل من الناس يشتركون في الكهرباء التجارية التي تبيع الكيلو الواحد بنحو 300 ريال والدفع أسبوعيًا. هذا النوع من الخدمات يذكّر الناس بكهرباء الماضي حين كانوا يعترضون على سعر 9 ريالات للكيلو الواحد، رافضين سداد الفواتير المتكدسة لأشهر وسنوات، من دون أن يهددهم أحد أو يقطع التيار.

أما بقية الشعب فيشترون الطاقة الشمسية يوميًا من التجار الكبار المحسوبين إجباريًا على خدمة الحوثيين. هذا النوع من الطاقة يحتاج إلى تجديد وتغيير مستمر للمواد، ما يعني تكاليف بملايين. وفي كل مرة يُطرح موضوع إعادة تشغيل محطة مأرب الغازية لضخ الكهرباء الحكومية، يتساءل الناس: هل يعقل أن تتوقف تجارة الكهرباء والطاقة الشمسية التي تدر الملايين؟! بالطبع لا. ولهذا يرفضون ويماطلون. بالمناسبة، هناك محطات كبيرة ومتوسطة وصغيرة مثل محطتي ذهبان وحزيز، لكنها أصبحت تجارية خالصة، والدفع فيها أسبوعي، ومن لا يدفع يُسحب عداده وتُفصل عنه الكهرباء. إنها خلاصة فارقة بين زمن الدولة وزمن "اللعنة العامة".

المياه.. من حق عام إلى سلعة

وفي جانب المياه، تحولت الآبار التي كانت تضخ المياه إلى المنازل إلى مشاريع تجارية، تبيع المياه للوايتات بأسعار عالية، بحيث تصل التكلفة للمواطن إلى 15 ألف ريال. الأكثر جدوى من ذلك بالنسبة لهم هو بيع الماء للمنظمات، التي تقوم بتوزيعه عبر خزانات "السبيل" في الأحياء، حيث يتزاحم الناس للحصول على دبتي ماء أو أربع. ومع الأيام، صارت العملية تجارة وإيرادات بملايين، وبمبررات الحرب والأيديولوجيا لا يفكرون في أحوال الناس. بل يسألون أنفسهم: أيعقل أن نضخ الماء للناس وهم لا يقاتلون ويموتون لأجلنا؟! وهل يمكن أن تتوقف ملايين الإيرادات لأجل شعب لا يسدد الفواتير؟!

وبالمناسبة، من يبيع خدمات المياه للمنظمات والتجار، هو نفسه من يصنع من شعبه شحاتًا باسم "السيادة والكرامة". اليوم، أصبحت المياه والمجاري مقابل رسوم أسبوعية ثابتة، مع إلزام الناس بدفع المتأخرات القديمة، ومن لا يدفع يُسحب عداده وتُسد فتحات المجاري عن منزله.

واقع بائس

كذلك بقية المرافق الخدمية، كلها برسوم رسمية وتهديدات مستمرة. الجميع يعلم أن هناك دولة بنت وعمّرت وأقامت مشاريع خدمية، وهناك آخرون استولوا عليها وحددوا أسعارها واستلموا عائداتها لأنفسهم. فماذا بقي للناس في هذه البلاد؟ لا خدمة مجانية، ولا شيء جديد، سوى البقاء على قيد الانتظار. إلى متى؟! لا أحد يدري.

خاتمة،

الخدمات المعيشية للناس في كل دول العالم ضرورة حتمية وحق يومي لا ينقطع ولا يُتاجر به. لكنها في مناطق سيطرة الانقلابيين الحوثيين تحولت إلى تجارة ومناقصات وإيرادات، أكثر منها خدمات وضرورات حياتية. الجميع في مناطق سيطرة الجماعة يدرك أن هناك من أقام الدولة ومشاريعها، وهناك من جاء بعدها ليستولي عليها ويستفيد منها بشكل فج وجنوني، من دون أي التزامات خدمية أو استحقاقات شعبية. الأمر يثير في النفس الغرابة والتعجب، ويعمّق الوعي العام بحقيقة ما يحدث.