صنعاء بين نارين

صلاح الطاهري 

صنعاء… أيقونة التاريخ، مدينة معلقة بين الجبال والسماء، مدينة البيوت العتيقة المزخرفة، والأزقة التي تفوح منها رائحة البنّ والقصائد، مدينة الرجال الذين يحملون قلوباً من صخر وصدوراً من حنين، ونساءٍ يتكئون على الصبر كما لو أنه ميراث أزلي، وأطفالٍ يرسمون في الأزقة أحلاماً أكبر من الجوع والرصاص. هذه المدينة التي طالما خاطبت القلوب بعذوبة، باتت اليوم تخاطب العالم بأنينها، تصرخ بصوت لا يسمعه أحد.

في لحظة حالكة من التاريخ، جاءتها الغارات الإسرائيلية من السماء، لتضاعف نزيفها، وتؤكد أن لا حرمة لمدينة عربية مهما كان تاريخها أو قدسيتها. ليست المرة الأولى التي يُستباح فيها وجه صنعاء الجميل، لكنها اللحظة التي بدت فيها الكارثة أوضح من أي وقت مضى

 أن اليمني صار بين نارين… نار العدو الذي يقصف بلا رحمة، ونار جماعة تستغل وجعه لتصنع من دمائه خطاباً زائفاً ومكاسب عابرة.

من يشعر بصنعاء؟ من يخفف عنها؟

بمن تستغيث وهي ترى بيوتها العتيقة تُهدم فوق ساكنيها؟

من لها وهي بين قصفٍ خارجي يستهدف سماءها، واستغلال داخلي ينهش روحها؟

لم يكن القصف حدثاً عابراً بل رسالة ملغومة بالاحتقار لكل العرب، أن العواصم ليست سوى حجارة يمكن أن تُسقط متى شاء المعتدي، وأن الكرامة صارت سلعة تتآكل بين أروقة الصمت الرسمي والتواطؤ العاجز. لكن الأشد فداحة من القصف كان ذلك التصفيق الحوثي المنافق، الذي لم ير في الجرح إلا فرصة جديدة لتسويق خطب البطولة الزائفة.

اليمني اليوم يقف أمام مرايا الحيرة.

أيوجه غضبه نحو إسرائيل التي قصفت مدينته بلا اكتراث؟

أم نحو الحوثي الذي حوله إلى وقود سياسي ورهينة دائمة؟ وكان المتسبب الأول والفعلي لكل ما حدث ويحدث.

أم نحو العالم الذي يشاهد وجعه كما لو كان عرضاً مسرحياً؟

إنه شعب لم يتعاف بعد من نزيف الجوع، ولم يرمم كسور الحرب، ولم يجد لقمةً تصمد أمام جشع الفساد والعبث الحوثي والانقلاب السلالي حتى أضيفت إلى معاناته غارات إسرائيلية تُساق تحت لافتة فلسطين، بينما في الداخل يُستنزف باسم الصمود والممانعة، وتُنهب رواتبه ويُجوع أطفاله.

أي مأساة أعظم من أن تُقصف صنعاء من طائرات إسرائيلية، بينما الحوثي يصفق ليحول رمادها إلى مشهد دعائي؟

أي مفارقة أن يموت أطفال العاصمة، بينما قيادات الجماعة مشغولة في عد الغنائم ومضاعفة الجبايات؟

اليمني اليوم مكبل بالخذلان يُقصف من فوق، ويُجلد من تحت، وتُكمم حناجره، وتُستغل آلامه، وتُختزل أحزانه في شعارات فارغة. ومع ذلك… لا تزال روحه عصية على الانكسار.

لأنه ببساطة يعرف الحقيقة أن من يقصفه ومن يستغله وجهان لعملة واحدة، أحدهما يقتله بالصواريخ، والآخر يقتله بالجوع والخوف والنهب والسلب والمطاردات والاعتقالات والاخفاء القسري والموت.

صنعاء لا تموت، لكنها تئن..

تئن من عدوانٍ خارجي لم يجد من يردعه، ومن جبروت داخلي لم يجد من يوقفه، من صمت العالم وخيانته في نصرتها.

ولأنها مدينة تعرف معنى الحياة، فإنها لن تنكسر، ستبقى شاهدة على زمن فقد فيه العرب بوصلتهم، ولم يعرفوا أن من لا ينتصر لإنسانيته لن ينتصر لغزة  ولفلسطين، ولا لأي قضية.

صنعاء اليوم تسأل من لها؟

وتبقى الإجابة معلقة في صدر التاريخ، بانتظار يوم يعود فيه اليمني سيد أرضه، لا رهينة حرب الآخرين ولا أداة دعاية لأكاذيبهم.