اليمن.. بين صخب الخلافات وخطر المصير
في لحظات التحول الكبرى في تاريخ الدول، لا يكون الخطر الأشد فتكاً هو العدو المعلن فحسب، بل حالة الاستهانة الجماعية به، والانشغال عنه بصراعات جانبية تُبدد الجهد وتُربك الوعي وتؤجل المواجهة الحقيقية.
وهذا تماماً ما يعيشه اليمن اليوم، وسط مشهد سياسي واجتماعي مثقل بالملاسنات والمناكفات والتمترسات، في وقت يتطلب فيه الواقع قدراً أعلى من الإدراك والمسؤولية.
إن استمرار هذا المشهد المتشظي يكشف بوضوح أن كثيرين لم يستوعبوا بعد حجم الخطر الذي يمثله بقاء الحوثي، لا بوصفه مليشيا مسلحة أو انقلاباً عابراً، بل كمشروع هدم شامل يستهدف فكرة الدولة من أساسها، ويقوّض معنى الشراكة الوطنية، ويصادر المستقبل لصالح منطق الغلبة والوصاية.
الحوثي اليوم لم يعد تهديداً لطرف بعينه، ولا خصماً سياسياً يمكن احتواؤه بتفاهمات مرحلية، بل بات خطراً وجودياً لا يفرّق بين حزب وآخر، ولا يعترف بقبيلة أو منطقة أو انتماء. مشروعه قائم على الإقصاء، ويتغذى على الانقسام، ويزدهر كلما طال أمد الخلاف بين خصومه.
المؤلم أن هذا الخطر، الذي كان يفترض أن يشكل نقطة التقاء وطنية، تحوّل – بفعل الحسابات الضيقة وقصر النظر – إلى عامل إضافي لتعميق الانقسام. فبدل أن تُعاد صياغة الأولويات على قاعدة إنقاذ الدولة، انزلقت القوى المختلفة إلى صراعات هامشية، وكأن الزمن يمنح الجميع فرصاً غير محدودة، بينما هو في الحقيقة يسحب من تحت أقدامهم ما تبقى من وطن.
إن أخطر ما في استمرار الوضع القائم، ليس فقط تمدد الحوثي عسكرياً أو سياسياً، بل تحوّله التدريجي من تحدٍ مؤقت إلى واقع دائم، ثم إلى عقاب تاريخي تدفع ثمنه البلاد بأكملها. فعندما تُغيّب الدولة، لا تبقى أحزاب، ولا تُصان مشاريع، ولا تحتمي أسماء، ولا تُحفظ البيوت. الجميع، دون استثناء، يصبحون عراة أمام الفوضى.
اليمن لا يحتاج اليوم إلى مزيد من الشعارات أو المزايدات، بل إلى شجاعة الاعتراف بالحقيقة.. أن الخلافات، مهما بدت حادة، تظل أقل خطراً من بقاء مشروع لا يرى في اليمن إلا ساحة نفوذ، ولا في أبنائه إلا أدوات. وأن الدولة، بكل ما تعنيه من مؤسسات وقانون وأخلاق عامة، ليست خياراً سياسياً، بل ضرورة وجودية.
الرهان الحقيقي ليس على انتصار هذا الطرف أو ذاك، بل على انتصار فكرة الدولة على منطق المليشيا، وانتصار العقل الوطني على الأهواء، وانتصار المسؤولية على الحسابات الصغيرة. فالدولة هي الحصن الأخير، وإذا انهار هذا الحصن، فلن ينجو أحد من تحت أنقاضه.
وكما هو الحوثي سبب مآسي اليمن، لكنه اليوم أيضاً أخطر تجلياتها. والتاريخ لا يرحم من رأوا الخطر واضحاً ثم آثروا تجاهله.
فإما أن يكون هذا التحدي لحظة استعادة للوعي الوطني، أو يتحول –مع الوقت– إلى لعنة ممتدة، لا تزول إلا بعد أن تُستنزف البلاد وتُكسر الأحلام ويدرك الجميع، متأخرين، أن الوطن كان أكبر من كل خلافاتهم.