المؤتمر الشعبي العام: الشخصية والحزب والموقف

عبدالعليم سنان

عندما دخل اليمن تجربة التعددية السياسية رسميًا في عام 1990، بعد إعلان الوحدة اليمنية، لم يكن المؤتمر الشعبي العام مجرد حزب حاكم، ولم ينشأ كحزب إيديولوجي، بل كان "مظلة وطنية" شاملة صُممت لتحتوي الجميع وفق برامج وثوابت وطنية تضمنها ميثاقه الوطني، ومضى في تجربة شجاعة متحدية للمخاطر والمتغيرات خلال مراحلها الأولى، تمثلت في قوة الشخصية المؤتمرية، والمظلة الوطنية للحزب، والموقف الثابت.

المراحل الأولى

وبالرجوع قليلاً إلى مرحلة الثمانينيات، نجد أن اليمن كان قد شهد خلال تلك الفترة العديد من التحديات، إلا أن المؤتمر الشعبي العام تبنى الميثاق الوطني كمرجعية فكرية لكل القوى دون صدام مباشر مع أحد، وأيّد خيارات الدولة في الحفاظ على السيادة، وطرح نفسه كجبهة داخلية داعمة للاستقرار والتنمية والمشاريع الوطنية الكبرى..

ونتيجة لذلك يمكن القول، إن البلاد في ذلك العَقد الزمني كانت تمر بمرحلة إعادة بناء نظام سياسي هش خرج من أزمات الاغتيالات، والحروب الداخلية، والانقسام مع الجنوب.. وفي ظل غياب الأحزاب، جاء المؤتمر الشعبي العام ليكون: الأداة السياسية الأبرز لتجميع القوى التقليدية والدينية والعسكرية تحت مظلة النظام، والواجهة للتعبئة الوطنية في ظل أزمات اقتصادية وأمنية متعددة، ووسيلة بنّاءة لبناء شرعية سياسية تم بعدها الانفتاح على التعددية السياسية لأول مرة في تاريخ البلاد، وهكذا، نجح المؤتمر في تحقيق استقرار جيد للنظام، وصولاً إلى التحول الكبير في بداية التسعينيات مع إعلان تحقيق الوحدة الوطنية وإعلان الجمهورية اليمنية في الثاني والعشرين من مايو عام 1990م..

وعليه فإنه ومنذ لحظة التأسيس في الرابع والعشرين من أغسطس 1982 حتى ما بعد الوحدة، لم يكن الفصل ممكنًا بين المؤتمر الشعبي العام كرؤية سياسية، والزعيم الراحل علي عبدالله صالح كشخصية حاكمة وحاضنة، فـ"الشخصية" هنا لا تعني فقط القائد، بل تعني منهجية حكم قائمة على التوازنات القبلية والمناطقية والحزبية، والرؤى الوطنية الطموحة على مستوى الفكر السياسي ومسار الدولة الجامعة.. حيث تمكّن -رحمه الله- من احتواء معظم التناقضات الاجتماعية والسياسية، وجسّد تطلعات الدولة الوطنية الحديثة، والحفاظ على الاستقرار النسبي خلال التسعينات، رغم ما كانت تمر به البلاد من تحديات داخلية كبيرة: ملفات الوحدة، إعادة دمج القوات المسلحة، التعامل مع ملف الاشتراكيين، وبداية ظهور التيارات الإسلامية.

دولة ورجال

وكما يقال: "لكل زمن دولة ورجال"، فعلى مستوى الرجال، ساهمت الشخصية المؤتمرية في خلق نموذج اجتماعي وسياسي وإداري مرن أكد ثباته في وجه مختلف تلك الأزمات، وهذا ما منح اليمن حالة من الاستقرار والتنمية والنهوض، كما أن قدرة الحزب على استيعاب مختلف الأطياف السياسية والاجتماعية في صفوفه جعلته يُمثّل الرافعة الأساسية للدولة اليمنية خلال تلك المرحلة.

وفي إطار الدولة، لعب المؤتمر الشعبي العام دورًا محوريًا في تشكيل مؤسسات الدولة المدنية والعسكرية والحفاظ عليها، فقد قاد عملية صياغة الدستور، وإرساء نظام ديمقراطي ناشئ تضمن آليات الانتخابات والتعددية وحرية الصحافة، كما أن الحزب كان الجهة التنظيمية الوحيدة التي حافظت على استمراريتها رغم التحولات، ونجح في عقد مؤتمراته العامة، وتطوير نظامه الداخلي، وتوسيع قاعدة المشاركة فيه، ما جعله نموذجًا للحزب الوطني الشامل لا الحزبي الضيق.

من جهة أخرى، ورغم أن معظم الأحزاب على الساحة الوطنية كان ذات مشاريع عابرة للوطنية والوطن، أو مرتبطة بشخصيات وأيديولجيات مستوردة، إلا أن المؤتمر جاء بمشروع وطني وهوية يمنية خالصة، بل وسعى إلى بناء خطاب سياسي جامع يتجاوز الانقسامات الأيديولوجية، فكان قريبًا من الإسلاميين والقبائل، ومن أحزاب اليمين واليسار، ومن أبناء المدن والريف، وقد منحه هذا الاتساع في الأفق السياسي شرعية مجتمعية واسعة لم تكن متوفرة لكثير من الأحزاب الأخرى.

موقف ثابت واختبار صعب

على صعيد الموقف الثابت داخليا وخارجيا، تعامل المؤتمر بقدر كبير من الموازنة بين الهوية الوطنية والقومية لليمن وبين ضرورات التحالف الإقليمي والدولي. ورغم بعض الإشكالات في بدايات التسعينات، إلا أن الحزب نجح في إعادة تموضع اليمن ضمن محيطها العربي، وبرز كوسيط في بعض الأزمات، وحافظ على علاقات طيبة مع دول الخليج، وجسور تواصل مع القوى الإقليمية الكبرى، كما أن المؤتمر دعم قضايا الأمة الكبرى مثل فلسطين، ورفض أي محاولات لإقحام الوطن في صراعات محورية لا تخدم مصالحها، ما منح اليمن صوتًا دبلوماسيًا معتدلًا ومتوازنًا في مختلف مراحله.

ومع تفاقم أزمة 2011م وما تبعها من تحولات سياسية عميقة، واجه المؤتمر اختبارًا صعبًا، لكنه تمكن رغم تلك الظروف، من الحفاظ على هيكله التنظيمي، وعلى قدر من التماسك السياسي، وفي حين كثرت المحاولات لحلّه أو إقصائه، إلا أنه ظل فاعلًا في المشهد، وشارك في عملية الانتقال السياسي، ووقع على المبادرة الخليجية، وكان طرفًا أساسيًا في الحوار الوطني، ما يعكس مرونته السياسية وقدرته على إدارة الأزمات.

اليوم، وفي ظل تشظي الساحة اليمنية، لا يزال بإمكاننا اعتبار المؤتمر الشعبي العام من أكثر التشكيلات السياسية قدرة على لعب دور توفيقي بين الأطراف المختلفة، ولا يزال ينظر إليه -رغم اللغط والغلط والهجمات الممنهجة للنيل منه- أكبر المرشحين للعب دور محوري في إعادة بناء الدولة اليمنية على أسس توافقية، ذلك أنه ليس مجرد حزب سياسي، بقدر ما هو واجهة مهمة في تاريخ اليمن الحديث، بسلطاته، بمؤسساته، وبقواعده الشعبية.. فبالرغم من التحديات التي مر ويمر بها، إلا أنه حافظ على حضوره، كحامل لمشروع وطني جامع، لا يزال اليمن بحاجة إليه، وربما اليوم أكثر من أي وقت مضى.

لم تكتب النهاية بعد

بخصوص الحوثيين، فقد حاول المؤتمر الحفاظ على مؤسسات الدولة اليمنية بعد تحالف تكتيكي معهم فرضته الظروف، رغم معرفته القديمة والمتجذرة بخطورة هذه الجماعة الكهنوتية على مختلف الصعد الدينية والوطنية، الأمر الذي أكدته مقابلة سابقة قبل عشرين عاما نشرتها صحيفة ستة وعشرين سبتمبر مع الدكتور عبدالكريم الارياني، استشرف فيها معظم ما تمارسه الميليشيات حاليا على مختلف المستويات الوطنية؛ سياسية واجتماعية وثقافية وفكرية ودينية، وهو الذي قال قبل وفاته -رحمه الله- : "من غضب الله عليه مدّ في عمره حتى يأتي اليوم الذي يفاوض فيه مهدي المشاط"، هذه العشرين عاما التي تلت المقابلة المنشورة مع الدكتور الارياني، هي ما أشار إليها السفير أحمد علي عبدالله صالح في خطابه عشية الذكرى الثالثة والأربعين لتأسيس المؤتمر الشعبي العام، حيث قال: إن المناسبة تتزامن مع الحملة الشّرسة وغير المُبررة التي يتعرض لها المؤتمر وقياداته وأعضاؤه الأبطال من اعتقالات ظالمة وحملة تحريض غير مسبوقة، من قبل ميليشيا الحوثي التي أثبتت الأحداث المُتتالية على مدى عشرين عامًا، أنها لا تؤمن بالشراكة الوطنية ولا بالحوار والتعدد والديمقراطية".

ولأن الحوثيون يعرفون أن الوعاء الاجتماعي والسياسي للمؤتمر يتقاطع بقوة مع فكرهم، ووجوده يمنعهم من فرض مشروعهم دون مقاومة من الداخل، فقد سعوا منذ اللحظات الأولى إلى محاولة إفراغ المؤتمر من عناصر القوة داخليًا: تحجيم حضوره في الإعلام، إقصاء كوادره من المواقع الإدارية، ووضع شبكة رقابة على مؤسساته، ما أدى إلى انتفاضة الثاني من ديسمبر التي أرعبت الميليشيا وتحررت نتيجتها عدد من المحافظات ذات الأغلبية المؤتمرية، ولو لم يكتب النجاح حينها، إلا أنها لم تكتب النهاية بعد، فبالرغم من الممارسات الحوثية المستمرة والتي كان آخرها استهداف رئيس المؤتمر الشعبي العام الشيخ/ صادق أمين أبو رأس، واعتقال الأمين العام الأستاذ/ غازي علي الأحول، وعدد من قيادات الحزب، بعد أن قاموا بمنع إقامة أي فعالية بمناسبة الذكرى الثالثة والأربعين لتأسيس المؤتمر في صنعاء، مخافة انكشاف الحاضنة الجماهيرية والوزن الشعبي الحقيقي للمؤتمر، خاصة بعدما كشفته الرسائل التي بعثتها جنازتا الشيخين ناجي جمعان وزيد أبو علي، وأيضا ظهور الفيلم الوثائقي حول المعركة الأخيرة للزعيم الراحل علي عبدالله صالح، في قناة العربية، وكثير من المعطيات التي جعلت ميليشيا الحوثي تعيش حالة ارتباك وخوف من إستمرار الزخم الشعبي والسياسي للمؤتمر الشعبي العام..

بمعنى آخر، يتعامل الحوثيون مع المؤتمر ليس كشريك سياسي، بل كخطر كامن يجب تحجيمه باستمرار، وهي الحجة التي يمكننا بها إسكات كل التخرصات والمبالغات الهادفة إلى النيل من المؤتمر مهما توزعت قياداته، أو مرّ بحالة من التشظي قليلا، لكن القاعدة الذهبية في التاريخ السياسي هي: لا تموت الأحزاب التي ترتبط بالناس، وتملك ذاكرة وطنية.

أخيرًا

يمكننا القول أن المؤتمر الشعبي العام رغم كل ما أصابه، لم ولن يمت، لأنه لم يكن مجرّد "حزب سلطة"، بل لأنه ظل يعكس فكرة الدولة نفسها .. واليوم، وفي ظل الأزمة الراهنة، ينظر حتى المخالفون للحزب أو المختلفون معه إلى ضرورة عودته وأهميتها، ويرون فيها أداة إنقاذ وطنية، الأمر الذي لا بد من تحقيقه في حال أدركت قياداته المتفرقة مدى الثقل والوزن الوطني للحزب وتاريخ مواقفه وشخصياته، والتي تحتم على الجميع العمل من أجل استعادة المؤتمر لدوره وحضوره، والبحث عن الآليات الذكية لتفعيل ذلك، وصولا إلى استعادة الدولة اليمنية التي طالما ارتبط بها المؤتمر الشعبي العام في التأريخ اليمني الحديث..