بين ثورة الاتصال وطوفان التفاهة… من يُحصّن العقل العربي الجديد؟
لم يشهد التاريخ الإنساني ثورةً في تداول المعلومة وانتقال الرسالة كما يشهدها عصر الفضاء الرقمي ومنصات التواصل الإجتماعي.
فقد كسرت شبكة الإنترنت إحتكار المعرفة، وفتحت آفاق الوصول السريع إلى الأخبار والمعلومات، وحولت العالم إلى قرية كونية تتقاطع فيها الأفكار، وتتدافع الروايات، بلا حواجز زمنية أو جغرافية.
غير أن هذه الثورة، على أهميتها واتساعها، جاءت محملة بمفارقة خطيرة؛ فبقدر ما أصبح الوصول إلى الحقيقة ميسوراً، تضاعف في المقابل انتشار الشائعة، وتراجع الخط الفاصل بين المعرفة والضجيج، وبين الخبر والمحتوى المضلِّل.
في هذا الفضاء المفتوح، لم تعد المعلومة مشروطة بالمصداقية أو التحقق، بل غدت في كثير من الأحيان رهينة خوارزميات المشاهدة، ومنطق الإثارة، وسوق “الترند”. وهنا تتجلّى الكارثة الأكبر، لا في تزييف الوعي وخلط الحقائق فحسب، بل في ما تنتجه بعض المنصات والمشاهير من محتوى قائم على التفاهة، وترويج ثقافة اللاوعي، وتسطيح القيم، على حساب البناء المعرفي والتنموي والفكري للمجتمع.
الأخطر من ذلك أن أجيالاً عربية كاملة تتشكّل اليوم داخل هذا المستنقع الرقمي، حيث تُقاس القيمة بعدد المتابعين لا بعمق الفكرة، ويُكافأ السطحي لأنه صاخب، بينما يُقصى الجاد لأنه لا يثير الضجيج.
وبدل أن تكون المنصات الرقمية رافعة للمعرفة والتنوير، تحوّلت في كثير من نماذجها إلى مصانع لإعادة إنتاج الفراغ، وتكريس الإستهلاك العقلي، وإضعاف القدرة على التفكير النقدي.
أمام هذا الواقع، لم يعد الصمت خياراً، ولا الإكتفاء بالتشخيص كافياً.
فالضرورة تفرض تبنّي رؤية إعلامية عربية شاملة، تقودها المؤسسات الإعلامية الرسمية والخاصة، المسموعة والمقروءة والمرئية، إلى جانب منصاتها الرقمية، بما في ذلك المؤسسات والاتحادات العربية ذات الصلة، وبشراكة جادة مع المؤسسات التعليمية والتربوية والأكاديمية والفكرية والثقافية والإجتماعية.
رؤية لا تكتفي بمواجهة التفاهة أخلاقياً، بل تنافسها معرفياً، وتُقصيها بالمحتوى الرصين، لا بالمنع ولا بالوعظ المجرد.
إن تحصين العقل العربي الجديد لا يتحقق عبر خطابات نخبوية معزولة، بل من خلال إعلام تنويري ذكي، يُعيد الإعتبار للمعرفة، ويقدّمها بلغة عصرية وأدوات جذابة، دون التفريط بعمقها أو قيمها.
إعلام يربط الخبر بسياقه، والمعلومة بتحليلها، والحدث بأبعاده، ويُعيد تعريف “النجاح” بوصفه إسهاماً في وعي المجتمع، لا مجرد رقم عابر على شاشة.
كما أن المسؤولية لا تقع على عاتق الإعلام وحده، بل هي مسؤولية تشاركية تتكامل فيها أدوار المدرسة والجامعة، والمثقف وصانع المحتوى، والأسرة وصانع القرار. فالمعركة اليوم ليست معركة تقنية بقدر ما هي معركة وعي، تُخاض على العقول قبل الشاشات، وعلى القيم قبل المنصات.
إن إعادة تشكيل الوعي العربي باتجاه العلم والمعرفة والرقي الإنساني لم تعد ترفاً فكرياً، بل شرطاً أساسياً للبقاء في عالم لا يرحم المتخلّفين عن ركب الوعي. وبين فضاء رقمي مفتوح بلا ضوابط، وعقل عربي مهدّد بالإستلاب، يظل السؤال مُلحا... من يتقدّم خطوة إلى الأمام ليقود معركة إنقاذ العقل العربي من طوفان التفاهة؟
الجواب يبدأ من إعلام يدرك دوره التاريخي، ويختار أن يكون جزءاً من الحل، لا شاهداً، محايداً على الإنحدار.