قراءة تحليلية في تصدعات الشرعية اليمنية: تصعيد الجنوب.. رهانات الإقليم ومسار السلام المعطل

يعيش المشهد اليمني في المرحلة الراهنة واحدة من أكثر مراحله تعقيداً منذ اندلاع الحرب، حيث تتداخل الأزمات السياسية والعسكرية والاقتصادية والدبلوماسية في لحظة واحدة، وتتشابك الأدوار المحلية والإقليمية والدولية على نحو يعيد طرح الأسئلة الكبرى حول شكل الدولة، ومستقبل الشرعية، وحدود النفوذ، وإمكانات السلام. فما يجري في حضرموت وسيئون والمهرة وعدن لم يعد مجرد أحداث أمنية متفرقة، بل تحولات بنيوية تمس جوهر السلطة، وتكشف هشاشة الترتيبات السياسية التي أُسست بعد نقل السلطة وتشكيل مجلس القيادة الرئاسي.

في قلب هذا المشهد يقف المجلس الرئاسي اليمني بوصفه الإطار الأعلى للشرعية المعترف بها دولياً، لكنه يواجه اختباراً قاسياً يتمثل في عجزه عن فرض رؤية موحدة أو إدارة متماسكة للصراع، لا سيما في الجنوب، حيث يقود أحد أعضائه، عيدروس الزبيدي، مشروعاً سياسياً وعسكرياً يتناقض عملياً مع مفهوم الدولة الواحدة التي يُفترض أن المجلس الرئاسي وُجد للحفاظ عليها. هذا التناقض البنيوي داخل قمة السلطة ألقى بظلاله على مجمل المشهد، وفتح الباب أمام أسئلة حادة حول معنى الشراكة داخل الشرعية وحدودها.

"الرئاسي".. بين فكرة التوافق وواقع الانقسام

تشكل مجلس القيادة الرئاسي على أساس إنهاء حالة الفردية في القرار، وتوسيع قاعدة الشراكة داخل معسكر الشرعية، إلا أن هذا الهدف ظل نظرياً أكثر منه عملياً. فالتباينات العميقة بين مكوناته، واختلاف المرجعيات السياسية والمشاريع المستقبلية، جعلت المجلس أقرب إلى مظلة شكلية منها إلى قيادة فعلية موحدة. ومع تصاعد الأحداث في الجنوب، برز هذا الخلل بوضوح، حيث عجز المجلس عن اتخاذ موقف حاسم وموحد إزاء التمدد العسكري للمجلس الانتقالي، واكتفى ببيانات عامة لا تعكس قوة الدولة ولا تردع فرض الأمر الواقع.

هذا الضعف لم يكن وليد اللحظة، بل هو نتيجة تراكمات طويلة من إدارة الصراع بالتسويات المؤقتة، وتغليب منطق التوازنات الإقليمية على مقتضيات السيادة الوطنية. وفي ظل هذا الواقع، باتت الحكومة الشرعية نفسها تتحرك في مساحة ضيقة، مقيدة سياسياً وأمنياً واقتصادياً، وغير قادرة على تحويل اعترافها الدولي إلى نفوذ فعلي على الأرض، خصوصاً في المحافظات الجنوبية.

الجنوب كساحة لإعادة رسم النفوذ

ما يحدث في حضرموت وواديها، والمهرة، وعدن، لا يمكن فصله عن مشروع سياسي متكامل يقوده المجلس الانتقالي الجنوبي، يقوم على فرض السيطرة العسكرية كمدخل لفرض واقع سياسي جديد. هذا المشروع يستفيد من فراغ السلطة، ومن حالة التراخي داخل الشرعية، ومن الدعم الإقليمي، ليعيد إنتاج معادلة القوة في الجنوب، بعيداً عن أي توافق وطني جامع.

التوسع العسكري للمجلس الانتقالي، والذي جرى تبريره بخطاب محاربة الإرهاب وحماية الجنوب، كشف في جوهره عن سعي واضح لاحتكار القرار الأمني والعسكري، والسيطرة على الموارد والمنافذ، وفرض إدارة أمر واقع قد تتحول في أية لحظة إلى كيان سياسي موازٍ. هذا التوسع وضع المجلس الرئاسي أمام مأزق حقيقي، إذ كيف يمكن لعضو في أعلى سلطة شرعية أن يقود تحركات تقوض تلك السلطة نفسها؟

اللافت أن هذه التحركات لم تواجه برد فعل حاسم من الشرعية، الأمر الذي شجع المجلس الانتقالي على المضي قُدماً، وعمّق شعور بقية القوى المحلية في حضرموت والمهرة بالتهميش والقلق من فرض مشاريع لا تعبر عن إرادة المجتمعات المحلية، بقدر ما تعكس صراع النفوذ بين مراكز القوة.

الاقتصاد كضحية صامتة للصراع السياسي

في ظل هذا التشظي السياسي والعسكري، يدفع الاقتصاد اليمني ثمناً باهظاً. فالسيطرة غير المركزية على الموارد النفطية والموانئ والمنافذ البرية حرمت الحكومة من أهم مصادر الدخل، وفاقمت أزمة العملة، وأضعفت قدرتها على الإيفاء بالتزاماتها تجاه المواطنين. وفي الجنوب تحديداً، أصبحت الموارد أداة للصراع السياسي، تُدار بمعزل عن الخزينة العامة، وتُستخدم لتعزيز النفوذ المحلي على حساب الدولة.

هذا الواقع الاقتصادي الهش انعكس مباشرة على حياة المواطنين، حيث تدهورت الخدمات الأساسية، وارتفعت معدلات الفقر، وتآكلت القدرة الشرائية، في وقت تبدو فيه الحكومة عاجزة عن تقديم حلول حقيقية، بسبب غياب السيطرة الفعلية، وتداخل المصالح الإقليمية، واستمرار الانقسام المؤسسي بين عدن وصنعاء.

الدور الإقليمي بين الدعم والاحتواء
لا يمكن قراءة المشهد اليمني بمعزل عن الدور الإقليمي، ممثلاً بالأشقاء في دولة الإمارات والمملكة العربية السعودية بوصفهم الداعم الرئيسي للشرعية، على منع انهيار كامل لمنظومة الدولة، وعلى احتواء التصعيد في الجنوب، خشية أن يؤدي إلى فوضى أوسع تضعف الجبهة المناهضة للحوثيين. إلا أن هذه المقاربة تقوم في الغالب على إدارة الأزمة لا حسمها، وعلى الحفاظ على التوازنات بدلاً من فرض حلول جذرية.

المجتمع الدولي ومسار السلام المتعثر
على الصعيد الدولي، لا يزال المجتمع الدولي يتمسك بخيار التسوية السياسية، رغم إدراكه لصعوبة تحقيق اختراق حقيقي في ظل المعطيات الحالية. جهود المبعوث الأممي، وتحركاته بين مسقط والرياض والعواصم الإقليمية، تعكس إصراراً على إبقاء باب الحوار مفتوحاً، لكنها في الوقت ذاته تكشف محدودية التأثير الدولي في ظل غياب إرادة داخلية موحدة.

اللقاءات التي جرت في عمان مع الحوثيين ومع ممثلي الشرعية لم تسفر عن نتائج ملموسة، بل أعادت تأكيد حجم الفجوة بين الأطراف، وأن مسار السلام لا يمكن أن يتقدم في ظل استمرار الاحتجازات، والتصعيد الميداني، والانقسامات داخل معسكر الشرعية نفسه. كما أن الأمم المتحدة تواجه انتقادات متزايدة بشأن تركيزها على إدارة الأزمة بدلاً من معالجة جذورها السياسية.

دعوة أحمد علي عبدالله صالح ودلالاتها السياسية
في خضم هذا المشهد المعقد، برزت دعوة أحمد علي عبدالله صالح، نائب رئيس المؤتمر الشعبي العام، إلى كافة مكونات المجلس الرئاسي والقوى السياسية لتجاوز الخلافات وإعلاء المصلحة الوطنية. هذه الدعوة، التي جاءت في توقيت بالغ الحساسية، حملت دلالات سياسية متعددة، أبرزها محاولة إعادة الاعتبار لفكرة الاصطفاف الوطني في مواجهة الانهيار الشامل.

دعوة أحمد علي صالح لا يمكن فصلها عن حالة الإحباط العامة من أداء الشرعية، ولا عن القلق المتزايد من تفكك الدولة. فهي تعكس إدراكاً بأن الصراع داخل معسكر الشرعية لا يقل خطورة عن الصراع مع الحوثيين، وأن استمرار الانقسام يفتح الباب أمام مشاريع جزئية تهدد الكيان الوطني برمته. ومع ذلك، تبقى هذه الدعوة رهينة بمدى استعداد الأطراف الأخرى للتخلي عن حساباتها الضيقة، وهو أمر لا يبدو متاحاً في المدى القريب.

اليمن إلى أين؟
في المحصلة، يقف اليمن اليوم على حافة إعادة تشكل كبرى، قد تفضي إما إلى تسوية وطنية شاملة تعيد بناء الدولة على أسس جديدة، أو إلى مزيد من التفكك والتشظي.
المشهد الحالي يوحي بأن ميزان القوة يميل لصالح الفاعلين على الأرض، لا لصالح المؤسسات، وأن غياب قرار سياسي موحد داخل الشرعية يضعف قدرتها على مواجهة التحديات المتراكمة.

ما بين تصعيد الجنوب، وجمود مسار السلام، وتدهور الاقتصاد، وتباين الأدوار الإقليمية، يبدو أن اليمن بحاجة ماسة إلى مراجعة عميقة لمسار إدارة الأزمة، تتجاوز الحلول الترقيعية، وتعيد الاعتبار لمفهوم الدولة بوصفها إطاراً جامعاً لا ساحة لتقاسم النفوذ.
دون ذلك، سيظل المشهد مفتوحاً على احتمالات أكثر قتامة، وستبقى الشرعية عنواناً سياسياً بلا مضمون فعلي، في بلد يرزح تحت ثقل حرب لم تعد فقط بين طرفين، بل بين مشاريع متناقضة على أنقاض وطن منهك.