الحوثي بعد غزة.. الكذب المستمر والوعي المنتصر
حين تتوقف الحرب في غزة، تتوقف معها آخر أوراق الكذب التي يتكئ عليها عبدالملك الحوثي لتبرير مآسي اليمنيين، وتتعطل آلة التضليل التي حولت معاناتهم اليومية إلى شعار أجوف اسمه نصرة فلسطين. فجأة خمدت أصوات الزعيق في ساحات صنعاء وصعدة وإب والحديدة، وفرغت المنابر من الخطباء الذين لطالما جعلوا من “القدس” قميص عثمان يعلقون عليه كل فشلهم وفسادهم وجرائمهم بحق هذا الشعب المكلوم.
لسنوات، كانت فزاعة غزة ذريعة مقدسة يُجلد بها اليمنيون، وتُنهب باسمها أقواتهم، وتُبرر بها كل كارثة اقتصادية وإنسانية يعيشونها. كان الحوثي يدعي أنه يقاتل العدوان الأمريكي والإسرائيلي، فيما يطحن أبناء اليمن في طوابير الجوع وانقطاع المرتبات وغلاء الأسعار، ويكمم أفواه الإعلاميين والمعارضين باسم الثبات في وجه الطغيان.
لكن الحرب توقفت، وانكشف الغطاء، وسقطت الأقنعة. لم يعد بإمكانه أن يملأ الساحات بشعارات الموت لأمريكا واللعنة على إسرائيل، فاليمنيون أدركوا أن العدو الحقيقي ليس في تل أبيب ولا في واشنطن، بل في الكهوف التي تصدر قراراتهم اليومية بالمصادرة والاختطاف والقمع والجباية.
ومع انكشاف الوهم، بدأ الحوثي يبحث عن عدو جديد، يحيي به مشروعه الذي يعيش على الأزمات ويقتات على الحروب. ومنذ يومين فقط، ظهرت مؤشرات ذلك واضحة في خطابه الأخير حين ركز على اتهامات للمنظمات الأممية العاملة في اليمن بالتجسس لصالح الولايات المتحدة وإسرائيل. كما دعا الأجهزة الأمنية التابعة لجماعته إلى تكثيف التحقيقات مع الموظفين الأمميين المختطفين، الذين يبلغ عددهم 53 موظفاً، بعضهم محتجز منذ أكثر من أربع سنوات.
وأوضح الحوثي أن المسار الأمني يشكل توأماً للمجال العسكري في مواجهة الأعداء، مدعياً أن الأجهزة الأمنية ألقت القبض على خلايا تجسسية تعمل لصالح الأميركيين والإسرائيليين تحت غطاء العمل الإنساني.
فيما ذهب عدد من ناشطيه وزنابيله عبر منصات التواصل لتجديد العداء مع السعودية واصفين ذلك بالخطر السعودي والوصاية الخارجية، في محاولة يائسة لإحياء مشاعر الكراهية القديمة وتغذية عقلية الثأر التي يزرعها عبده الحوثي في عقول أتباعه كلما خفتت نار الحرب.
يبحث الحوثي عن معركة جديدة، لا ليحمي اليمن، بل ليحمي سلطته. يريد أن يجد غريماً خارجياً يبقي اليمنيين في حالة استنفار دائم، حتى لا يسألوا عن مرتباتهم المنهوبة، ولا عن ثرواتهم المسروقة، ولا عن حرياتهم المهدورة. يريد أن تبقى الشعارات بديلاً عن الكرامة، وأن تظل الوصاية شماعة يعلق عليها استبداده وبطشه.
لقد أدرك اليمنيون اليوم أن كل ما فعله عبدالملك الحوثي طوال السنوات الماضية لم يكن سوى إعادة إنتاج للطغيان تحت لافتة المقاومة، وأن العدوان الحقيقي هو ذاك الذي يمارسه على لقمة عيشهم وكرامتهم وحقهم في الحياة الحرة الكريمة.
إن محاولة الحوثي اليوم تحويل البوصلة نحو المنظمات الأممية أو أمريكا وإسرائيل أو أي بلد عربي ليست إلا حيلةً مكررة، يُراد بها إنعاش آلة التحشيد بعد أن توقفت شعارات غزة عن العمل. لكنه نسي أن الوعي الشعبي لم يعد كما كان، وأن الناس الذين اكتووا بنار الجوع والنهب والجبايات لم يعودوا يصدقون خطابات المظلومية المقدسة.
اليمنيون اليوم أكثر وعياً من أي وقت مضى. فهم يعرفون أن من صادر رواتبهم ليس العدوان، بل سلطة الحوثي. ومن قصف أحلامهم ومستقبل أبنائهم ليس أمريكا، بل مشرف الحي ومندوب السلالة. وأن الكرامة التي يتحدث عنها الحوثي هي آخر ما يمكن أن يراه اليمني في مناطق سيطرته.
توقفت الحرب في غزة، لكن الحرب ضد الوعي لا تزال مستمرة في اليمن. وها هو الحوثي يستعد لإشعالها من جديد، ليس دفاعاً عن قضية، بل دفاعاً عن بقائه.
غير أن التاريخ لا يرحم من يتخذ من القضايا العادلة مطيةً للظلم، ولا من يجعل من الدين وسيلةً للنهب، ولا من يرفع شعار الكرامة وهو يسحق كرامة وطن بأكمله.
لقد آن لليمنيين أن يقولوا كلمتهم
كفى أكاذيب، كفى شعارات، كفى فزاعات.
العدو الحقيقي هو من جعلك جائعاً، خائفاً، محروماً من حقك في الحياة.
وغداً، بل نقول قريباً، سيعلم الحوثي أن الشعب الذي صمت طويلاً لم يكن ضعيفاً… بل كان ينتظر لحظة الوعي التي لا ترحم أحداً.