ليلة ناقمة على إيران في ساحات العراق

لا يوجد في العراق اليوم خاسر غيرهم، الطائفيون ورجال الدين، وسياسيو الزمن الشاذ ومنظرو الرثاثة السياسية، والمنتصر الوحيد هو جيل صنع حياة كان يراها على الشاشات الصغيرة لكنها حياة مستبعدة عن بلاد مهيأة لأن تكون مثالا للانفتاح والاعتدال والتحضر.

علينا أن نعترف بهزيمتنا أمامهم، نحن الذين نكتب أكثر مما نتحرك! الخيبة التي اكتنفتنا على مدار عقد كامل منذ احتلال العراق، لم تكن هزيمتهم بقدر ما كانت هزيمتنا، فأولئك الفتيان جيل التوك توك يصنعون ما عجزت عنه كل التنظيرات، لأنهم تركوا الكلام تذروه الرياح كالأوراق الواهنة وتحركوا إلى الميدان. لقد صنعوا التاريخ الذي يتوقون إليه من مكان الإحباط والغضب.

جازفت الأحزاب الدينية الفاسدة بعد دفعها إلى حكم العراق بفقدان قلوب وعقول عدة أجيال ليست من الشباب فحسب، وهي تعول على الخرافة وتتخذ البغضاء أداة للصراع من أجل التفرقة. فيما المفاجأة كانت من جيل ولد في كنفها وخضع لدعايتها الرثة، إلا أنه مثل قدر الضغط الكاتم الذي انفجر بوجهها، ذلك التعبير الوحيد الذي يفسر حيرة الحاكمين في بغداد اليوم، لأنهم على مدار أكثر من عقد كانوا يتشبثون بالوهم على اعتباره حقيقة قائمة وباقية، فيما الواقع يقول إن كل من وصل إلى المنطقة الخضراء منذ عام 2003 لم يكن سوى نتاج لحكومة افتراضية لا تستطيع في الواقع أن تحكم أكثر مما هو مسموح لها.

لا يوجد في العراق اليوم خاسر غيرهم، الطائفيون ورجال الدين، وسياسيو الزمن الشاذ ومنظرو الرثاثة السياسية، والمنتصر الوحيد هو جيل صنع حياة كان يراها على الشاشات الصغيرة لكنها حياة مستبعدة عن بلاد مهيأة لأن تكون مثالا للانفتاح والاعتدال والتحضر.

لقد كتب أحد المتشائمين إبان الصراع الطائفي بعد احتلال العراق، أن الأميركيين لم يفعلوا شيئا سوى رفع غطاء “السبتتنك” فظهرت حقيقة المجتمع العراقي! إلا أن ذلك الكلام وإن حظي بقبول ما في وقت شاذ فإنه لا يمثل الحقيقة كلها، لأن ما يحدث في ساحة التحرير ومراكز المدن العراقية يظهر أن العدو الفعلي للمتظاهرين في الواقع هو من نشر عفونته الطائفية، بوصفها واقعا جديدا للعراق. لذلك يغطي جيل التوك توك الباهر وجهه، ليس تجنبا لدخان الغاز المسيل للدموع وحده، بل لأن رائحة أولئك القاطنين في المنطقة الخضراء أكثر عفونة من القاتل جان باتيست غرونوي في رواية العطر لباتريك زوسكيند.

لا يمكن أن تكون المخاطر والخسائر بالنسبة إلى مستقبل العراق والطريقة المعيبة التي يتفاعل معها العالم للأسف مع تظاهرات العراق المستمرة، أكبر مما هي عليه الآن.

إذا انتصر أولئك الشباب وهم يصنعون من كل جملة تطلق في ساحات المدن المنتفضة على الطبقة السياسية والدينية الفاسدة هاشتاغا وأنشودة، ونجحوا في صنع قدرهم من أجل مستقبل أكثر ديمقراطية للعراق، فإن ذلك يشير إلى أن العالم برمته الذي اعترف متأخرا بتدمير بلاد ما بين النهرين تحت مسوغ كذبة كبيرة، مستعد للتكفير عن ذنوبه تجاه العراقيين منذ فرض طوق الحصار الاعمى حتى خذلانه لانتفاضة الشباب. لقد فشلت كما لم تفشل على مر التاريخ الجملة المشتركة التي أطلقها جورج بوش الابن ووزير الدفاع دونالد رامسفليد إبان احتلال العراق بأن الحرب تجلب الحرية.

كان الوضع قبل سنوات بالنسبة إلى كثيرين ميؤوسا منه، إلا أن هلع المرشد الإيراني علي خامنئي في كلامه الأخير حيال تظاهرات لبنان والعراق، والحيرة التي تكتنف الميليشيات والفصائل العراقية العاملة تحت إمرة قاسم سليماني، تقول “إذا احترقنا، أنتم ستحترقون معنا” كانت إحدى صرخاتهم الحاشدة، في ليلة عراقية ناقمة من إيران شهدتها ساحة التحرير أمس بعد ساعات من كلام خامنئي وترديد أتباعه من ببغاوات المنطقة الخضراء.

في النهاية لقد صُنع جيل لم يحظ بحياة طبيعية ولا تعليم متميزا ولا رعاية ولا فرصة عمل، جيل رأى كرامته مهدورة في وطنه، لذلك رفع شعاره الألمعي “نريدْ وطن”. كان هناك صراع أجيال في ثورة الشباب اليوم لا خاسر فيه من العراقيين، لأنهم تركوا سنوات الطائفيين خلفهم بعد ثورة تشرين حيث تغدق عليهم السماء بنثيثها المنعش.

لقد نشرت فيديو قصيرا على حسابي على تويتر في الليلة العراقية الناقمة على إيران أمس، عن مجموعة من الفتيان الذين حرضوا جدهم الطاعن في السن على النزول معهم إلى ساحة التحرير للتظاهر. هذا الجد كان من قبل يرفع عصاه محذرا إياهم من الخروج، ويذكرهم بمن فُقد من أبناء العائلة قائلا ليست لدينا قلوب قادرة على تحمل دماء مهدورة جديدة، لكن صراع الأجيال انتصر للشباب عندما أقنعوا جدهم على التظاهر معهم، وكان بينهم شيخا بعقاله العراقي وسط مئات الآلاف في ليلة عراقية ناقمة على إيران وعلى فصائلها المختبئة لحد الآن.

كانت ليلة عزف للنشيد العراقي الوطني الرافض لكل الطبقة السياسية الحاكمة، على أيدي عازفين يرتدون أقنعة واقية من الغازات ويلفون رؤوسهم بقطع سوداء، فيما العراق برمّته يرى الأمل قد عاد مجددا.

*العرب