بومبيو وخرافة إيران دولة طبيعية

فور وصول الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى سدّة الحكم في المكتب البيضوي للبيت الأبيض في العام 2016 وقع اختياره على مايك بومبيو ليوكل له واحدة من أهم الوكالات الحكومية في واشنطن، والتي تحمل عبء الأمن القومي الأميركي مباشرة، وهي وكالة الاستخبارات المركزية “سي.آي.أي”.
 
بومبيو الذي كان عضوا في الكونغرس عن ولايته كنساس منذ العام 2017 حتى تسلّمه منصبه في الوكالة، كان قياديا في حركة “حزب الشاي” التي تمثّل أقصى اليمين في الحزب الجمهوري، إلى جانب عضويته في اللجنة الوطنية للحزب ذاته.
 
وفي 13 مارس أعلن ترامب عن رغبته في ترشيح بومبيو لشغل منصب وزير الخارجية، خلفا للوزير ريكس تيلرسن الذي قام بعزله عندما كان في مهمة رسمية خارج البلاد، وذلك بتغريدة على حسابه في تويتر يطلب منه فيها مغادرة الموقع مع تقديره للخدمات التي قام بها خلال تسلّمه أعلى منصب في الدبلوماسية الأميركية. قبل ذلك كان بومبيو قد التحق، حال تخرّجه من الثانوية، بالأكاديمية العسكرية الأميركية في ولاية نيويورك، حيث درس الهندسة الميكانيكية ليتخرج أولا على دفعته. وخدم في الجيش حتى العام 1991.
 
بومبيو يحمل درجة الدكتوراه في القانون من جامعة هارفارد، وعمل محررا في مجلة هارفارد القانونية ومن ثم محامٍ في مجموعة وليامز وكونولي القانونية؛ إحدى أشهر مؤسسات المحاماة في واشنطن.
 
خبرته في مجال المخابرات والتي جعلت منه مرشح ترامب الأول لاستلام منصب مدير وكالة الاستخبارات المركزية تأتي من شغله عضوية لجنة الاستخبارات في الكونغرس، ثم اللجنة الفرعية المعنية بوكالة المخابرات المركزية، وقد تم تعيينه في لجنة بنغازي المعنية بالتحقيق في الأحداث المأساوية التي حدثت في ليبيا.
 
الوزير المتديّن وشروطه
 
بومبيو رجل متديّن، مثل نائب الرئيس مايك بنس، وهو متأثر جدا بمراجعه الإنجيليه والتوراتية. وفور استلامه لمنصب وزير الخارجية الأميركي حاملا ترتيب الوزير 70 في هذا الموقع، قام بزيارة إسرائيل وأعلن من هناك عن الدعم المتواصل لها.
 
وقد اغتنمت إسرائيل هذه الفرصة لاستغلال وجود شخص كبومبيو في أعلى منصب دبلوماسي في واشنطن، فعمدت إلى الدفع بأجندتها في أروقة البيت الأبيض بقوة، وبتجاهل تام لإرادة الشعب الفلسطيني والاتفاقات الدولية قامت الولايات المتحدة خلال أشهر من تسلّم بومبيو زمام السياسة الخارجية الأميركية، بنقل سفارتها من تل أبيب إلى القدس ودمجت القنصلية الأميركية العامة في القدس مع السفارة، وأغلقت مكاتب منظمة التحرير الفلسطينية في العاصمة واشنطن، وأخيرا اعترفت بسيادة إسرائيل على الجولان السوري المحتل في سابقة تاريخية بتجاوز الأعراف والقيم الدولية والأصول القانونية.
 
انسحبت الولايات المتحدة من الصفقة النووية التي عقدتها دول 5+1 في العام 2015، ومن بينها أميركا، وذلك في العهد الديمقراطي الأسبق للرئيس باراك أوباما. وكان وزير الخارجية حينذاك هو جون كيري الذي مثل الولايات المتحدة في التوقيع على الاتفاق. أما في عهد الصقور الجمهوري للرئيس ترامب فالأمور انقلبت رأسا على عقب عما كانت عليه؛ إذ شدّدت واشنطن العقوبات الاقتصادية إلى درجة إحكام الطوق تماما على عنق طهران وخاصة في مجال تصدير نفطها وهو موردها القومي الأول لميزانية الدولة التي هي أقرب إلى الانهيار الاقتصادي بتأثير العقوبات الأميركية وخروج واشنطن المدوي من الاتفاق النووي.
 
ترافقت هذه العقوبات الاقتصادية مع ضغوط سياسية عالية؛ فلأول مرة تصنف وزارة الخارجية الأميركية الحرس الثوري الإيراني، وهو جهة عسكرية تابعة للدولة الإيرانية، بأنه جماعة إرهابية مسلحة؛ ولم تكتف بذلك، بل جمدت أموال نظير بومبيو، وزير الخارجية الإيراني جواد ظريف، على أراضيها.
 
منهج بومبيو السياسي يعتمد على رفض تركة الإدارة السابقة لأوباما في ما يتعلق بالملف الإيراني، ومحاولته تقويض كل ما قامت طهران ببنائه نتيجة الاتفاق النووي من ترسانة أسلحة نووية ومواقع تطوير الصواريخ البالستية البعيدة المدى والتي يريد الإيرانيون أن يجعلوها قادرة على حمل رؤوس نووية؛ كما أن الأموال التي تدفقت عليهم بعيد الاتفاق سمحت لهم أن يكونوا أكبر دولة راعية للإرهاب في العالم من خلال استعمال العوائد النفطية في تمويل الميليشيات الطائفية العابرة للحدود.
 
بومبيو يريد تجميد الأموال التي تسمح للإيرانيين بالانخراط في أعمال تجارية في الاستيراد والتصدير تمنحهم الموارد والأموال اللازمة لتسليح أذرعهم الميليشيوية ووكلائهم في المنطقة، من حزب الله في لبنان وسوريا، إلى الميليشيات الشيعية في العراق، وصولا إلى الحوثيين في اليمن.
 
خارطة الطريق
 
في الوقت الذي يرفع بومبيو العصا بيده لردع الملالي الحاكمين في طهران عن خططهم في زعزعة الاستقرار في الشرق الأوسط ونشر الإرهاب في العالم، يمسك غصن السلام بيده الأخرى بشروط أميركية صارمة، عددها اثنا عشر شرطا، وضعها كأساس لعودة الولايات المتحدة إلى طاولة المفاوضات مع إيران حول برنامجها النووي. فعلى إيران كما يردد ترامب باستمرار “أن تتصرّف كدولة طبيعية” وعندها يمكن للإدارة الأميركية أن تبحث في موضوع رفع العقوبات وإنجاز اتفاق نووي أفضل من السابق.
 
خارطة الطريق الاثنا عشرية ترتكز على 12 مبدأ تشكل الاستراتيجية الأميركية القريبة والبعيدة المدى من أجل تطبيع العلاقات مع إيران، ولن يتخلى عنها بومبيو ولا إدارته لأنها تركّز على إزاحة كل الوسائط التخريبية التي انتهجتها إيران وأدت إلى عزلها دوليا.
 
وهنا نورد هذه الشروط لأنها وثيقة أميركية ثابتة أعلنها الوزير بومبيو ويسعى إلى تنفيذها؛ وقف تخصيب اليورانيوم وعدم القيام بتكرير البلوتونيوم، بما في ذلك إغلاق مفاعلها العامل على الماء الثقيل، تقديم تقرير للوكالة الدولية للطاقة الذرية حول البعد العسكري لبرنامجها النووي والتخلي بشكل كامل عن القيام بمثل هذه الأنشطة، منح مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية إمكانية الوصول إلى كل المواقع في البلاد، وقف نشر الصواريخ البالستية والتطوير اللاحق للصواريخ القادرة على حمل الأسلحة النووية، وإخلاء سبيل كل المحتجزين من الولايات المتحدة والدول الحليفة والشريكة لها، والذين تم توقيفهم بناء على اتهامات مفبركة أو فقدوا في أراض إيران، والتعامل باحترام مع الحكومة العراقية وعدم
 
عرقلة حل التشكيلات الشيعية المسلحة ونزع سلاحها. إضافة إلى سحب جميع القوات، التي تخضع للقيادة الإيرانية، من سوريا، ووقف تقديم الدعم لـ”التنظيمات الإرهابية”، الناشطة في الشرق الأوسط، بما في ذلك “حزب الله” اللبناني، وحركة “حماس”، وحركة “الجهاد الإسلامي”، ووقف الدعم العسكري للحوثيين في اليمن، ولحركة “طالبان” و”الإرهابيين” الآخرين في أفغانستان، وعدم إيواء مسلحي “القاعدة”. ووقف “دعم الإرهاب” بواسطة قوات “فيلق القدس” التابع للحرس الثوري الإيراني، والتخلي عن لغة التهديد في التعامل مع دول مجاورة لها، الكثير منها حلفاء للولايات المتحدة، بما في ذلك الكف عن التهديدات بالقضاء على إسرائيل والهجمات الصاروخية على السعودية والإمارات، والتوقف عن تهديد عمليات النقل البحرية الدولية، ووقف الهجمات السيبرانية.
 
ويشير بومبيو في تصريحات صحافية له ما مفاده أنه حتى تلتزم إيران بحزمة هذه الشروط مجتمعة دون إنقاص أي بند منها “ستستمر الولايات المتحدة في فرض عقوبات على طهران لم يشهدها التاريخ”.
 
حرب الناقلات
 
ويرى بومبيو أن التدخل الروسي في سوريا جاء بسبب سماح أوباما بهذا الوضع، وأن ما تتمناه واشنطن هو العمل مع موسكو من أجل إنهاء الصراع في سوريا ودفع الأطراف المعنية من المعارضة والنظام في الدخول إلى العملية السياسية لتطبيق القرار الأممي 2254
 
وتحقيق الانتقال السياسي الحقيقي في سوريا وتأمين عودة النازحين واللاجئين الذين بلغ عددهم 6 ملايين سوري، شرط أن تكون عودة إرادية لا قسرية وآمنة وكريمة. فالولايات المتحدة لن تسمح بإرغام السوريين على العودة من مواقع اللجوء بالترهيب كما حدث عند خروجهم من بلدهم هاربين من آلة النظام العسكرية ومن التطرف الإرهابي وسيطرة ميليشيات حزب الله التابعة لإيران على الوضع الميداني والقرار السياسي هناك.
 
ولم يكن تصنيف وزارة الخارجية الأميركية لحزب الله كمجموعة إرهابية وفرض العقوبات على المسؤولين في الحزب ومن يرتبطون مع هؤلاء المسؤولين إلا جزءا من استراتيجية بومبيو تجاه إيران، بحرمانها من الموارد التي تستعملها في دفع رواتب عناصر حزب الله، ومدّه بالعتاد والسلاح، حتى تحكم سيطرتها على المفاصل السياسية في سوريا. فمن خلال تجفيف هذه الموارد وتصفير صادرات النفط الإيراني سيتم بشكل مباشر ليّ أذرع وكلاء إيران في سوريا وعلى رأسهم ميليشيا حزب الله، ما سيساعد على خروج تدريجي لإيران والعودة إلى المسار السياسي، بعيدا عن مطامع طهران في المنطقة ككل.
 
ويبقى للملف الإيراني الأولية بين الملفات الخارجية على مكتب مايك بومبيو نظرا للتطورات المتلاحقة في هذا الملف، ابتداء من الاختراقات المتكررة لطهران لما توافقت عليه من واجباتها ضمن الاتفاق النووي في فيينا، مرورا بتمويلها المتواصل لوكلائها في العراق واليمن وسوريا ولبنان، وصولا إلى حرب الناقلات التي افتعلتها في الخليج وبالقرب من مضيق هرمز الحيوي، وانتهاء بالقصف الذي قام به حزب الله من الأراضي اللبنانية -وبقرار انفرادي بعيد عن قرار دولته- بضرب شمال إسرائيل ردا على الاعتداء الإسرائيلي على مكاتب الحزب في ضاحية بيروت بطائرات الدرون المسيّرة.
 
السؤال الذي يطرح نفسه الآن: هل سينجح الوزير بومبيو بلجم تحركات إيران الإقليمية، وكبح أطماعها التوسعية، والسيطرة على انتهاكاتها للاتفاق الذي وافقت عليه بنفسها قبل أن يقع الصدام الحقيقي بينهما، أم أن الحصار الأميركي لطهران قد وضعها على مقربة من الصواب السياسي للعدول عن سياساتها المقلقة والاستفزازية والعودة إلى الحظيرة الدولية من خلال الشروط الأميركية الحازمة؟ نتساءل وننتظر لنرى تطور الأحداث على المدى القريب الذي سيفرض حربا شاملة، أو سيطلق حمائم السلام في المنطقة والعالم.
 
*العرب