التشتت القاتل في اليمن... أربع زوايا تُؤجل الحسم وتبقي الشرعية في مرمى النفوذ
على مشارف عقد من الصراع، لم يعد تأخير حسم معركة استعادة الدولة اليمنية يقتصر على تعنت طرف الانقلاب فحسب، بل تحول إلى نتاج لفشل نظامي مُعقد، تتشابك فيه الإخفاقات الداخلية بين مكونات الشرعية مع تباين الأهداف الإقليمية والتردد الدولي.
إن جوهر المشكلة يكمن في فقدان الإرادة الموحدة لدى المعسكر المناهض للانقلاب، وهو ما غذى صمود الطرف المتسبب ووفر له المناخ لاستدامة الأزمة في واحدة من أطول الحروب الأهلية في المنطقة.
تظل مليشيا الحوثي هي العائق الحصري للحل السياسي، حيث ترفض الانصياع لأي تسوية تفرض عليها التخلي عن السلطة، وتصر على فرض الأمر الواقع العسكري والسياسي مستفيدة من التفكك في صفوف الشرعية.
هذا التعنت، المدعوم بتوجه إقليمي معروف، هو حجر الزاوية الذي يمنع الحسم الشامل، لكنه يستمد قوته وبقاءه من الفوضى والوهن الذي يضرب أطراف المواجهة.
وهن مؤسسي وصراع مكونات
يُعد الوهن المؤسسي في بنية الشرعية المُعترف بها دولياً هو العقد الداخلي الأعمق.
فبدلاً من تحويل الاعتراف الدولي إلى قوة موحدة وفعالة، غرقت قيادات مجلس القيادة الرئاسي في مستنقع صراع الأجنحة والوهن المؤسسي بسبب تغليب المصالح الفئوية والمحاصصة. تجسد هذا في التباينات الواضحة والممتدة بين أعضاء المجلس، والتي أدت إلى فشل وشلل في اتخاذ القرارات المصيرية المتعلقة بالقيادة الموحدة للقرار السياسي والقيادة الموحدة للجبهات، مما أفقد الشرعية مصداقيتها كمرجعية جامعة.
هذا الشلل يتفاقم بسبب السياسات التي تحمل إرث الصراعات القديمة وتضع المصالح الضيقة فوق المشروع الوطني.
فـالمجلس الانتقالي الجنوبي يدفع، رغم وجوده ضمن الرئاسي، بقوة نحو مشروع الانفصال وتأسيس كيانات موازية في الجنوب، الأمر الذي يضعف أي جهد للحسم الشامل.
كما يبرز حزب التجمع اليمني للإصلاح كأحد المكونات الرئيسة التي من المؤكد عليها أنها ما زالت أسيرة لقوقعة المصالح الضيقة والنظرة القاصرة، حيث استمرار النزعة الحزبية التي تسعى لتصدر الموقف وإدارة البلاد بقرار التنظيم، وتفكير الإقطاعية، أدى إلى إعاقة حقيقية لتوحيد الجبهات والقوات، ومنع تشكيل جبهة حسم عسكرية وسياسية موحدة.
مشاريع متقاطعة
تحول التدخل الخليجي، الذي كان ضرورياً لمنع الانهيار، إلى مصدر للتعقيد بسبب تباين الأجندة الوطنية لدول التحالف المتصاعدة. لقد تراجعت الأولوية لـ"استعادة الدولة اليمنية" بشكل كامل لصالح أهداف تكتيكية واستراتيجية خاصة بكل دولة تتعلق بضمان مناطق نفوذ جيوسياسي واقتصادي، خاصة على السواحل والجزر والمنافذ الحيوية. هذا التباين أدى إلى دعم كيانات موازية لضمان مصالح كل دولة في مناطق نفوذها، مما شتت الجهد الوطني وقسّم الساحة المناهضة للانقلاب، وحوّل المعركة إلى صراع على النفوذ بين الأطراف المتحالفة ذات الأولويات المختلفة، بدلاً من توحيد القوة نحو هدف الحسم المشترك.
هذا التناقض الإقليمي يُعد عاملاً رئيسياً في تأخر الحسم وعرقلته المستمرة.
جمود دولي
على المستوى الدولي، يتحمل المجتمع الدولي مسؤولية كبرى في عرقلة الحسم عبر انتهاجه سياسة "إدارة الأزمة واحتوائها" بدلاً من اتخاذ قرار حازم بإنهاء الصراع.
هذا التراخي يتمثل في غياب الضغط الفعّال، والاكتفاء بالإدانات والمناشدات الإنسانية دون تفعيل آليات قوية لفرض تسوية (كتطبيق قرار 2216).
كما أن تغليب مصالح الملاحة الدولية والطاقة على حساب الاستقرار الشامل في اليمن، خلق هامشاً من اللامبالاة منح الميليشيا فرصة المناورة واستدامة الأزمة.
بالتالي، فإن المجتمع الدولي والدول الخليجية، كلاً بمشروعه الخاص، لديهما دور كبير ومباشر في تأخر الحسم واستمرارية الصراع.
دعوة لـ "إعادة النظر" في بوصلة القيادة
إن الحسم المؤجل هو انعكاس لفشل الأطراف جميعاً في تحمل المسؤولية الكاملة.
ورغم أن مليشيا الحوثي هي الطرف المُتسبب والأكثر تعنتاً، إلا أن مفتاح فك هذا الجمود المُعقد يكمن في إنهاء التناحر ووقف المحاصصة داخل المجلس القيادي الرئاسي ومكوناته. وحده الاتحاد الحقيقي للإرادة الوطنية بين مكونات الشرعية هو الذي يستطيع أن يفرض نفسه كقوة لا يمكن تجاهلها.
هذا الاتحاد لن يتم إلا بـخطوة جريئة تتطلب من المجتمع الدولي والدول الخليجية والدول الراعية للشرعية والحكومة اليمنية إعادة النظر في طبيعة القيادة. فمن الضروري جداً دعم مسار يقود إلى اختيار قيادات وطنية يمنية تتميز بـتاريخ نزيه وخلو من الجرائم والفساد، والابتعاد عن الخصومة الضيقة، وتتمتع بإرث وطني يمنحها تأييداً شعبياً واسعاً.
فوجود قيادة تحظى بهذا القبول والشرعية المجتمعية الكبيرة، سيُلزم التحالف بموقف حازم، ويجبر المجتمع الدولي على التحول من التردد إلى التدخل الجدي لإنهاء هذه المأساة.
فمن دون قيادة قادرة على لم الشمل وتحمل وزن المرحلة التاريخي، سيبقى اليمن يدور في حلقة مفرغة من الصراع الذي لا أفق لنهايته.