مشاهد من الحياة في صنعاء (1)
صنعاء. مدينة جميلة، لكنها متعبة. الأزمات فيها لا تنتهي: كهرباء غائبة، مياه مقننة، رواتب مقطوعة، أسعار ترتفع كل يوم، والخدمات تنهار بصمت. رغم ذلك، الناس يحاولون أن يعيشوا، يتمسكون بشيء من الأمل أو التعود، لا أحد يعرف الفرق بالضبط. الجميل في صنعاء هو ناسها.. صبر غريب، ومزاح وسط الألم، وضحكة تخرج من قلب مليء بالتعب. الحرب حولتنا إلى محترفين في التأقلم، نبتكر حلولًا من لا شيء، ونسخر حتى من مآسينا.
لكن خلف هذا الوجه المتفائل أحيانًا والبائس أوقاتًا أطول، هناك تعب كبير.. تعب ما عاد يُقال، بل يُفهم بالصمت والنظرات. صنعاء ليست بخير، لكنها تحاول. هنا، سأتحدث عن صنعاء، من زاوية واحدة فقط.. عن وجهها المنسي: وجه الفقراء والمعدمين، الذين لم يتبق لهم من المدينة سوى هوائها. في صنعاء صارت أحاديث الناس لا تتجاوز سؤال واحد: أين نجد كيس دقيق؟ أين تباع دبة غاز؟ هل سيمر متصدق من هنا؟
صنعاء لم تكن بهذا الشكل الأليم. لكنها اليوم لا تتجاوز الذكريات القديمة والأحلام المؤجلة. عن زمانهم المصحوب بمشاهد الدولة الحقيقية، دولة النظام والقانون والديموقراطية، ومع كل هذا ما زالت صنعاء في قناعات الأهالي بمثابة الأم.. وبرغم الحصار والجوع والقهر، ما زالت تحب أبناءها وتحتضنهم. تمامًا كما يصفها مواطنوها، ولو خيرت في وطن، لقلت هواك أوطاني، إذا ما ضعت في درب، ففي عينيك عنواني..
كان الناس في الماضي يفكرون بالحياة وتجاذباتها ويتناقشون حول المستجدات واليوميات، ويتنافسون على تعليم أبنائهم وبناتهم وخدماتهم المعيشية المتوفرة؛ أما اليوم فواقع أهاليها بائس فعلًا. نتيجة ما اقترفته جماعة الخراب فيها من ويلات.. هل تصدقون أن أحد الأشخاص يقدم المال للفقراء في الشوارع بشرط أن يصرخوا أمامه بصوتهم المدوي؟ أنتم تعلمون ماذا يعني يصرخون ويرددون الشعارات المكروهة؟ لهذا يصرخون لأجله ويصرخون لأجل المال، ليشعر بعدها بنشوة الانتصار! ويأخذون هم فتاتًا من المال لأجل عيالهم وحياتهم، ماذا أيضًا؟ هذا ما سأحكيه لكم هنا بعدة مشاهد واقعية من حياتنا اليمنية..
تسول في عمر الزهور
نهار ذات يوم مع أحد الأصدقاء، أوقفنا سيارتنا في ميدان السبعين بصنعاء، وجلسنا فيها لنتحدث ببعض المواضيع. وخلال أقل من ساعة فقط جاءت إلينا أكثر من خمس عشرة امرأة يطلبن المساعدة ويشرحن أوضاعهن المادية الصعبة: فتيات بعمر الزهور، عجائز كبيرات، أمهات ونساء مع أطفال صغار، بائعات متجولات، وغيرهن، بحالة من الإرهاق والتعب والفقر الشديد؛ يمنيات أصيلات خرجن من بيوتهن للبحث عن الصدقات بعد أن عجز رجالهن.
لم تمر لحظات حتى تغادر إحداهن وتأتي أخرى. بعضهن يحملن في أيديهن بعض المستلزمات لعرضها للبيع، يبرّرن وقوفهن المتكرر في الشوارع الرئيسية، وأخريات يحملن أوراق العلاجات، وفتيات بعمر العشرين يطلبن الصدقة بنوع من الخجل والحياء وعدم التعود، في منظر يقتل القلب ويدمي العقول. ربنا يعين هذا الشعب المدفون بين الأنقاض، بعد أن زلزلته الأوضاع وأجوعته وقتلته ألف مرة ومرة بين ركامها وبقايا فتاته.
قطعة من الهم والخوف
في جولة ريماس بصنعاء، رجل كبير في السنّ، يُسابق الأطفال لمسح زجاج السيارات بينما ينتظر أصحابها المرور. رجل بهي الطلعة، بلحية بيضاء وملامح مكسورة، اقترب منا وقام بمسح زجاج السيارة، برأسٍ منحنٍ ومشاعر مكبوتة. انتهى واقترب نحو النافذة؛ شكرته وأعطيته أجرته، ثم تمنيت له العون في حياته، وتجرأت قليلاً للحديث معه بينما ينظر إليّ. قلت له: ربنا يعينك يا حاج، الدنيا تحتاج لصبر، وتحتاج لكفاح، ربنا يعينك ويقويك. تنهد الرجل قليلًا وقال: آه يا ولدي، من كان يتصور أن يكون أبو صالح ممسح سيارات ويطلب صدقات! من كان يتخيل هذا الذي وقع بنا؟ الله ما أقسى الحياة عليّ وعلى بناتي. والله يا ولدي إننا كنا مستورين وعايشين بدون أيّ حاجة، لكن الوضع تغيّر علينا، وجار الزمن على حياتنا؛ معي بنات ومعهنّ أولاد، وما فيه حدّ غيري يعولهنّ، وأنا من دون راتب، ومن دون أولاد يعملون، أنا مقطوع من شجرة مع بناتي. كنت موظفًا في زماني، وكان معي مرتب تقاعد يكفيني ويكفي حياتي، لكن أنت تدري كيف قد وقع بنا؛ لا عادت رواتب، ولا عادت مصادر دخل، على الله يا ولدي، على الله بس.
غادر الرجل، وبقيت أتساءل في داخلي عنه: ترى ماذا واجه هذا الرجل الكبير خلال سنواته الأخيرة ليصبح وجهه قطعة من الهم والخوف؟! لا أحد بإمكانه الإجابة، ولا كلمات تجيد البوح بمكنوناته عن الزمان الشاق الذي يحويه. كان يتحدث بغصة، ويسابق الأطفال بين السيارات بحرقة، وعلى كتفه خرقة متسخة للمسح والتلميع، كأنه يتمنى الرحيل ولا يبالي بالآخرين — هكذا خيل لي من ملامحه. البداية قاسية، والزمان شاق، والآخرة ملاذ وحيد لنجاته من ويل الشقاء الطويل!
غصة الأب
في جولة الرويشان بصنعاء، سألت فتاة صغيرة تُلح عليّ أن أشتري منها باكت فاين. سألتها: «ليش متجلسي بالبيت وأبوك يشقى أليش؟ أين أبوكي، وأين أمك؟!» قالت: «أبي يشتّي يشتغل بس والله ما يقدر، هو يوصلنا لا هانا ويجلس يوبه لنا من بعيد، وأمي ماتت، وإحنا ثلاث خوات بنات نبيع أي حاجة من العصر للمغرب ونروح مع أبونا، هكذا يومية لمن يعيننا الله ويعين أبي لأنه مريض وتاعب.» إلحاحها لم يكن مزعجًا، لقد كانت غصة حملتها في قلبي ثم غادرت.
من يرحمنا من؟
كأنما أرسلها القدر لتحكي لنا حكايتها ومعاناتها: امرأة أربعينية يكسوها الإنهاك والتعب والإجهاد في شكلها وملامحها. امرأة بسيطة وعفيفة ومحترمة، لكنها مسكينة وضعيفة وعاجزة. صعدت الباص بعد أن طلبت من السائق أن يحملها معه مجانًا، جلست بجوار امرأة أخرى خلفي، كانت تتنهد من تعبها وأوجاعها. قليلًا قليلًا قالت لها المرأة بجوارها: «الله يعينك يا أختي شكلِك تعبانة.» التفتت إليها وهي تقول: «والله إن قد ركبي وارجلي عيتكسرين، قدنا تعابة قوي، من يرحمنا من؟! قد روحي عا تموت من الجوع والتعب والعطش. والله العظيم أننا أمشي من الصبح على أرجلي من شيراتون إلى الجامعة الجديدة، إلى الجامعة القديمة؛ لما وصلت كنتاكي وما قدرت أكمل. من الصبح للآن سبع ساعات وأنا أمشي، والآن أشتي أروح لبيتي بحزيز وما معي ريال.» قاطعتها المرأة التي بجوارها: «أوه الله يعينك، بس ليش هذا كله؟!» أجابتها: «أنا أمشي أدور لي عمل، والله ما لقيت أيّ عمل. لي شهرين أدور، من عمارة إلى عمارة، ومن مكتب إلى مكتب، ومن بيت إلى بيت، ومن بقعة إلى بقعة، أشتي أشتغل أي حاجة. أنا كنت أشتغل قبل شهرين بمائة وخمسين ألف، وخرجوني من عملي بسبب الاختلاط، قالوا ممنوع الاختلاط؛ خرجوني من عملي ودمروا حياتي ورزق عيالي لأن الاختلاط حرام، هكذا قالوا. أح أح: الله يرحمنا بس، أما الموت من الجوع فحلال قوي!»
أخذت المرأة الأخرى علبة ماء كانت في يدها، وأخرجت حبتين موز من كيسها وأعطتهما للمرأة بجوارها. أخذتهما المرأة، شربت الماء ثم أكلت الموز، وشكرتها من قلبها. بعدها قالت: «تصدقي بالله إن معي عيال وبنات في البيت بحزيز من دون صبوح ومن دون غداء، وواحدة من بناتي مريضة؛ عندها مرض مزمن.» ثم رفعت صوتها مع الأسى والدموع لتقول: «الله يكتب لبنتي ما فيه الخير، إما الشفاء وإما الموت والراحة، والله ما نحن قادرين نفعل لها شيء.» قالت كلماتها بحزن عميق، عن أم مكلومة وموجوعة أنهكها الزمان والمكان. أضافت في سياق حديثها قائلة: «قبل أيام صدمني متر وأنا ماشية بالشارع أدور عمل، صدمني وهرب وخلّاني مطروحة بالشارع؛ الآن يدي اليمنى توجعني وما أقدر أفعل بها شيء، شوفيها هاه، ربطتها وبس، هذا اللي أقدر أعمله لها.»
كانت تتحدث وتتحدث وتشتكي عن حالها وحالتها، كأنما انفجرت لقلب آخر كان يفهمها ويشاركها الشعور والأوجاع. كانت تسرد تفاصيلها، وأنا أمامها أجلس بصمت، أستمع إليها وأتخيل حالها وأتساءل بقلبي وخيالي عن حكايتها وقدري: لماذا يا الله تسمعني هذه الحكايات الموجعة؟! لماذا يا رب تزيد من أوجاعي وأحزاني؟! كأنما القدر يدري أنني لا أقوى على كتمان مثل هذه الحكايات البائسة. هذه الحكاية العابرة، والمرأة العاجزة، واحدة فقط من ملايين الحكايات في هذا الزمان والمكان. أقولها لكم: هي حكاية بلا عنوان أو تفاصيل، بلا محاولات عاطفية أو استجداءات إنسانية بغرض مساعدتها، لأنني لا أعرفها، ولا أعرف بقية عناوينها. لكنها واحدة من حكايات العابرين في حياة اليمنيين المرغمين على الضياع؛ اسمعوها فقط وتخيلوا بقية الحكايات عن شعب أُرغم على الفقر والجوع والحصار، بمصطلحات فارغة ومزيفة، كأنه يُعاقَب عن بكرة أبيه وأمه؛ شعب ضعيف، كأنه الضحية الأخيرة والوحيدة لأطماع السلطة وثرواتها، كأنه البريء المسفوك دمه بلا خلاص أو نجاة أو دولة تنقذه من ويل ما قد أوقعوه فيه!
ـ يتبع…