17 يوليو.. يوم ولادة اليمن الجمهوري الحديث

تحلّ علينا الذكرى الوطنية الخالدة 17 يوليو، وهي محطة فارقة في تاريخ اليمن الحديث، إذ تسلّم فيها الزعيم الوطني الرئيس علي عبدالله صالح مقاليد الحكم عام 1978، في ظرف استثنائي كانت فيه البلاد تقف على حافة الانهيار، تغرق في فوضى الاغتيالات والانقسامات السياسية والأمنية، وسط بيئة إقليمية ودولية مشحونة بالتجاذبات الأيديولوجية والحروب الباردة.

لقد شكّل ذلك التاريخ بداية لعصر جديد، أراد له الشهيد صالح أن يكون انتقالاً من التشرذم إلى الوحدة، ومن الاحتراب إلى البناء، ومن هشاشة الدولة إلى ترسيخ مؤسساتها. 

ويتفق المحللون السياسيون والمراقبون، على أن ما بين 17 يوليو 1978 و2011، كان اليمن قد شهد نقلة نوعية في مختلف المجالات، وبات يُشار إليه كدولة تملك مؤسسات دستورية، وتعيش حالة من التوازن بين التنوع الثقافي والمجتمعي النادر، ضمن دولة موحدة ذات سيادة.

مشروع دولة

خلال 33 عاماً من الحكم، استطاع الرئيس صالح أن يقود البلاد نحو بناء مؤسسات حديثة، واستيعاب التحولات السياسية والاجتماعية، فشهد اليمن نهضة شاملة تمثلت في مختلف المجالات.

اقتصادياً: توسعت البنية التحتية في عموم البلاد، بما في ذلك الطرق والمدارس والمستشفيات والسدود، واستغلال موارده النفطية والغازية في تحقيق نمو اقتصادي ملموس رغم محدوديتها.

اجتماعياً وثقافياً: رُفعت القيود عن حرية الصحافة، وتوسعت رقعة التعليم، وتقدمت المرأة في ميادين العمل والمشاركة السياسية، وتم الاعتراف بالتنوع الثقافي كجزء من الهوية الوطنية.

سياسياً: خاض اليمن تجربة ديمقراطية فريدة في محيطه، بدأت بالانتخابات النيابية عام 1993، وتبعتها انتخابات رئاسية ومحلية، ما جعل اليمن نموذجاً متقدماً مقارنة بجيرانه في الشرق الأوسط.

الوحدة اليمنية: كانت محطة 22 مايو 1990 تتويجاً لرؤية الزعيم صالح في بناء الدولة الموحدة، وتحقيق حلم الأجيال اليمنية، رغم التحديات التي رافقت التجربة.

علاقات خارجية مستقرة

عرفت فترة حكم صالح توازناً دقيقاً بين مكونات المجتمع اليمني، فاستطاع التعامل مع القبائل، والنخب السياسية، والكيانات الدينية، بمهنية سياسية جنّبت اليمن الانزلاق إلى أتون الحروب الأهلية.

في الوقت نفسه، حافظ الزعيم صالح، على علاقات متوازنة مع الدول الإقليمية والدولية، ولم يسمح بتحول اليمن إلى ساحة للصراعات الخارجية.

ولعل أبرز ما يميّز تلك المرحلة هو الحفاظ على سيادة القرار اليمني، فقد رفض الزعيم صالح الإملاءات، وتمسك بثوابت اليمن الوطني، وبقي صوت اليمن يُسمع في المنابر الدولية، لا يُدار من عاصمة أجنبية.

سقوط المشروع الوطني

لكن ذلك المشروع الوطني لم يُرضِ أطرافاً داخلية وخارجية كانت ترى في قوة الدولة اليمنية تهديداً لمصالحها، حيث تجمّعت قوى الإسلام السياسي، والمشاريع الطائفية والمناطقية، وبعض القوى الخارجية التي أرادت لليمن أن يتحول إلى دولة هشة يسهل تطويعها.

وبذريعة "الربيع العربي"، أُطلقت أوسع حملة سياسية وإعلامية وعسكرية استهدفت النظام الجمهوري ومؤسساته، وعلى رأسها المؤسسة العسكرية، التي جرى تفكيكها تحت عنوان "إعادة الهيكلة"، لتفتح بذلك أبواب الفوضى.

وكانت نتيجة هذا التآمر أن تم إغراق البلاد في صراعات دامية، وانتهى المشهد بانقلاب ميليشيا الحوثي في سبتمبر 2014، بدعم إيراني مباشر، لتبدأ مرحلة من التمزيق الميداني والتهجير والتطرف والانتهاكات، غاب فيها الوطن وتشرذمت الدولة.

17 يوليو.. دروس وعبر

إن الذكرى الوطنية 17 يوليو لا ينبغي أن تُقرأ بوصفها ذكرى عابرة في سجل التواريخ، بل هي تجسيد لمشروع دولة تم الانقلاب عليه، وتفكيكه قطعة قطعة، أمام أعين العالم، ليغدو اليمن اليوم مثخناً بجراحه، منقسماً على ذاته، تنتزع السيادة من بين أبنائه.

ولعل الانقسامات الحاصلة اليوم، والتمزق السياسي والجغرافي، واستلاب القرار الوطني، هي أبرز الشواهد على فداحة المؤامرة التي حيكت ضد اليمن. 

وما استباحة الميليشيا الحوثية للعاصمة صنعاء، وابتلاع مؤسسات الدولة، واستهداف النسيج الوطني، إلا واحدة من النتائج المباشرة لإسقاط المشروع الوطني الجمهوري الذي مثّله الرئيس الشهيد علي عبدالله صالح.

وتفرض علينا الذكرى الخالدة 17 يوليو، أن نراجع التاريخ بعين وطنية، لا حزبية ومناطقية، وأن ندرك أن الحفاظ على الدولة اليمنية لا يكون بالشعارات، بل باستعادة روح المشروع الوطني الجامع، وتقدير من بذلوا أرواحهم دفاعاً عن اليمن.

إنّ الوفاء الحقيقي لذكرى 17 يوليو هو استعادة القرار الوطني، وإحياء مؤسسات الدولة، وبناء السلام على أسس العدالة والسيادة، وتجاوز المشاريع الصغيرة التي لا تبني أوطاناً، بل تفتحها للدمار والوصاية.