إيران لن ترد مباشرة على مقتل سليماني

ما حدث في الساعات الأولى من يوم الجمعة كان خطوة مفتاحية سوف تعقبها سلسلة إجراءات عسكرية وسياسية لإحكام القبضة الأميركية على العراق بواجهات عراقية سياسية وعسكرية، كما ستعقبها متغيرات في سوريا ولبنان واليمن.

لم ينتظر متظاهرو ساحات التحرير في العراق طويلاً لإعلان بهجتهم بمقتل قائد فيلق القدس الإيراني ونائب رئيس الحشد الشعبي في العراق ومن معهما في عملية “البرق الأزرق”، فبعد دقائق من وصول خبر استهداف القوات الأميركية لموكبهما بصواريخ أطلقتها طائرات مسيرة، انطلقوا في مسيرات أعلنوا فيها فرحتهم بالحادث.

إن المنتفضين العراقيين يرون في ما حدث صراعا على النفوذ بين قوتين أجنبيتين لا علاقة لهم بهما، وأن الفرح بمقتل سليماني والمهندس لا يعني تأييد السياسات الأميركية من قريب أو بعيد، كما عبّر عن ذلك عدد من المنتفضين، ولكن لا ينكر، أيضاً، أن مصرع هاتين الشخصيتين، اللتين يعتبرهما المنتفضون أبرز قادة “الطرف الثالث” الذي استهدفهم بالقتل والاغتيالات، قد أعطى انتفاضة العراقيين زخما كبيرا وجعل المتظاهرين أكثر إصرارا على مطالبهم.

وصف كاتب عراقي كبير، أبا مهدي المهندس، قبل مقتله بمدة قليلة بأنه “أخطر جاسوس إيراني في العراق”، وقال إنه “برتبة جنرال في فيلق القدس، ومهمته الأساس، في المرحلة الراهنة، ذات سياقات عسكرية عديدة، من بينها، تحجيم الجيش العراقي ومنع تطوره، تمهيداً لتحويله إلى قوات أمنية داخلية، وإنهاء ‘بدعة’ الجيش حامٍ للسيادة الوطنية، والدفاع عن حدود البلاد، فهذه شعارات قومية في نظره”.

 والمهندس يرى أن العراق ليس وطناً مستقلاً، ولا جزءا من الأمة العربية، وإنما هو امتداد استراتيجي لإيران، والزاوية الشرقية، في خارطة هلالها الشيعي، ويسعى أيضا إلى تشتيت جهاز مكافحة الإرهاب، وحجته في ذلك أنه أميركي التأسيس والتسليح، ويعمل، منذ خمس سنوات، على تأهيل عدد من فصائل الحشد الشعبي، ومنها ميليشيا حزب الله التي يقودها مباشرة، ومعسكرها الرئيس في مدينة جرف الصخر المنكوبة، وتحويلها إلى حرس ثوري “عراقي” يكون ركيزة السلطة، وحاضنة الحكم، كما هو حال الحرس الثوري الإيراني.

 وسياسياً فإن مهمة المهندس تلخصت بإخضاع المناطق والمحافظات السنية العربية بالكامل لسيطرة الميليشيات الشيعية، والسعي إلى تغيير هوية السكان فيها، والاستمرار بتهميشهم وتحجيمهم، ومنع نازحيهم ومهجّريهم من العودة إلى بيوتهم وديارهم، وإجبار السلطات الحكومية، على مواصلة إهمال تلك المحافظات وعدم إعمارها، وتقليص ميزانياتها، وهذا ما يحدث، حالياً ومنذ خمس سنوات، في محافظات ديالى وصلاح الدين والأنبار وكركوك والموصل وشمال بابل.

أما قاسم سليماني فهو شخصية مفصلية في نظام الولي الفقيه، فهو ينفّذ سياساته لإخضاع بعض دول المنطقة لإيران، واضطلع سليماني بأدوار لم تقتصر على ساحات المعارك العسكرية، بل بأدوار دبلوماسية لم تواجه رفضاً من حكومة حسن روحاني، إذ عيّن دبلوماسيين من أعضاء فيلق “القدس” في مناصب دبلوماسية، منهم السفير الحالي لدى العراق إيرج مسجد جامعي، الذي كان لسنوات كبير مستشاري سليماني.

وعندما سئل وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف عن طبيعة العلاقة بينه وبين سليماني أجاب “أكنّ له الاحترام الخاص، تربطنا علاقات وطيدة منذ 20 عاما ونعمل معا عن كثب لتحقيق أهداف الجمهورية الإسلامية”.

سليماني يعدّه أنصاره، ومن بينهم مسؤولون إصلاحيون ومحافظون بطلا قوميا يدير عمليات الحفاظ على سيادة البلاد في الخارج، لكنّ معارضيه يرون فيه عاملاً أساسياً في انعدام الأمن في المنطقة ولاسيما في العراق وسوريا واليمن من خلال دعم ميليشيات متعددة.

 وفي وقت نشرت صور لحضوره في سوريا والعراق إلى جانب الميليشيات، التي تدعمها إيران، وجّه المحتجون خصوصاً في التظاهرات التي جابت العراق أخيرا، انتقادات واسعة لقاسم سليماني، وأطلقوا شعارات متعددة ضده وضد التدخل الذي تقوده بلاده في العراق.

هناك من تخوّف من أن استهداف سليماني والمهندس ينذر بحرب أهلية في العراق وحراك قوي في إيران لاستهداف المصالح الأميركية، من دون أن يفطنوا إلى المتغير الذي أحدثته الانتفاضة العراقية، التي وحّدت موقف العراقيين جميعاً من النفوذ الإيراني في العراق وأفرزت خندقين لا ثالث لهما في بلاد الرافدين هما خندقا الشعب الموحد، والميليشيات الموالية لإيران، والخندق الأخير فضح ضآلته وحجمه الصغير هجوم هذه الميليشيات على السفارة الأميركية في اليوم الأخير من السنة الماضية.

بعد مصرع سليماني والمهندس ظهرت القنوات الفضائية للأحزاب الموالية لإيران وميليشياتها وعلى واجهتها كلمة واحدة “سننتقم”، كما أن تلفزيون العهد المحلي القريب من جماعة عصائب أهل الحق نقل عن قيس الخزعلي قائد الجماعة المسلحة قوله “على كل المجاهدين المقاومين الجهوزية، فإن القادم علينا فتح قريب ونصر كبير، ومقابل دماء الشهيد القائد أبومهدي المهندس زوال كل الوجود العسكري الأميركي في العراق. ومقابل دماء الشهيد القائد قاسم سليماني زوال كلّ إسرائيل من الوجود”، وهذا الكلام ليس معقولاً ولا واقعياً، فقد هرب عناصر الميليشيات من إطلاق طائرة أباتشي أميركية مشعلاً نارياً عليهم عند هجومهم على السفارة الأميركية في المنطقة الخضراء، ما جعل مرجعية السيستاني في النجف تنصحهم، في خطبة الجمعة، بضبط النفس والتصرف بحكمة.

إن ما حدث في الساعات الأولى من يوم الجمعة كان خطوة مفتاحية سوف تعقبها سلسلة إجراءات عسكرية وسياسية لإحكام القبضة الأميركية على العراق بواجهات عراقية سياسية وعسكرية، كما أن انعكاسات الحدث سوف تعقبها متغيرات في سوريا ولبنان واليمن، ولن تستطيع إيران إبداء أيّ رد فعل مباشر على ما حدث.

*العرب