ثلاثة أحداث مهمة في سوريا.. رسائل روسية في "صندوق بريد" أنقرة

خلال أسبوع واحد فقط شهد الشمال السوري الخاضع لسيطرة فصائل المعارضة ثلاثة أحداث، ذات طابع عسكري، إلا أنها حملت في طياتها رسائل سياسية، لم تنحصر في الملف السوري فقط.

الأحداث الثلاثة ارتبطت بما هو أبعد من ذلك، إلى الجبهات البعيدة، التي وضعت أنقرة وموسكو فيها بصماتهما، في ليبيا مؤخرا، والآن وفي الصراع الذي يشهده إقليم ناغورنو قره باغ المتنازع عليها بين أذربيجان وأرمينيا.
 
الحدث الأول كان إخلاء الجيش التركي كبرى نقاط المراقبة المحيطة بإدلب، والواقعة في مدينة مورك في الريف الشمالي لحماة، والتي كانت قد تثبتت بموجب تفاهمات "أستانة"، التي ما تزال تحكم مشهد المحافظة حتى الآن، ويعيد الروس والأتراك والإيرانيون التذكير بها، في كل مناسبة أو قمة بين الزعماء الثلاثة (أردوغان، بوتين، روحاني).
 
أنقرة صامتة حتى الآن، ولم تعلق أو توضح الأسباب التي دفعتها لإخلاء نقطة المراقبة في مورك، سواء كان هذا الأمر خيارا استراتيجيا أم على خلفية ضغوط، وهو تطور اعتبره النظام السوري "نصرا له"، بحسب ما ذكرته وسائل إعلامه، وعلى الجانب المقابل اعتبره مدنيون يقيمون في إدلب بمثابة "خذلان" لهم، ولاسيما بعد الوعود السابقة والتأكيدات الرسمية التركية، بعدم الانسحاب من أي نقطة مراقبة.
 
لم تمض أيام على الحدث الأول، حتى تبعه قصف جوي روسي، في 23 أكتوبر الحالي، استهدف سوقا للمحروقات قرب مدينة جرابلس بريف حلب الشرقي، والتي تقع ضمن منطقة "درع الفرات"، أبرز المناطق التي تديرها وتدعمها تركيا، في هجوم لم تعلّق عليه الأخيرة أيضا، رغم أنه يستدعي اتخاذ موقف رسمي، فالمنطقة المستهدفة لا تبعد سوى كيلومترات قليلة عن الحدود السورية- التركية، وتقع ضمن ملاك وغرفة عمليات الجيش التركي.
 
وما بين الحدث الأول والثاني كان لإدلب حدثا ثالثا كسر الاسم الذي وسمت به "خفض التصعيد"، تمثل بشن الطائرات الروسية غارات استهدفت معسكرا تدريبيا لأبرز الفصائل التي تدعمها أنقرة في الشمال السوري، وهو فصيل "فيلق الشام"، المحسوب على المعارضة المعتدلة، وأبرز الفصائل المنضوية في "الجيش الوطني"، الذي تدعمه تركيا لوجستياً وبالمعدات العسكرية.
 
وأسفر القصف الروسي عن مقتل العشرات من الفصيل المعارض، وذلك في أثناء إجراء تدريباتهم في المعسكر الذي لا يبعد سوى كيلومترات قليلة أيضا عن لواء اسكندرون في منطقة جبل الدويلة، وبينما أصدرت فصائل "الجيش الوطني" بيانا أدانت فيه الاستهداف، وتوعدت بالرد على مواقع قوات الأسد وروسيا، التزمت أنقرة الصمت، وسط الحديث عن اعتزامها القيام برد فعلٍ لم تحدد ماهيته حتى الآن.

صندوق بريد "الشركاء"

 باتت سورية "صندوق بريد" يوجه إليه الشركاء (روسيا، تركيا) رسائلهم، وفق توصيف المحلل المختص بالشأن الروسي، نصر اليوسف، في تصريحات لموقع "الحرة".
 
ويقول اليوسف، المقيم في موسكو أن "من الواضح جدا أن العلاقات الروسية – التركية ليست في أحسن أحوالها، بسبب الكثير من المنغصات التي ظهرت في الفترة الماضية"، والتي ترتبط بما يشهده الملف الليبي، وفي الوقت الحالي في الصراع بين أذربيجان وأرمينيا، بالإضافة إلى شرق المتوسط، الذي تميل فيه موسكو إلى اليونان وقبرص.
 
ويضيف المحلل السياسي أن "الروس تحدثوا وبكل وضوح أن أهواءهم تقف إلى جانب الأرمن لاعتبارات دينية"، بمعنى أنهم في صف يريفان، على عكس أنقرة التي تدعم باكو، وكانت قد أعلنت دعمها الواسع لها، وأبدت جاهزيتها بإرسال قوات عسكرية، وبالتزامن مع ذلك تحدثت تقارير إعلامية أنها أرسلت مقاتلين سوريين لدعم المعارك البرية، إلى جانب الجيش الأذربيجاني.
 
التباين في المواقع البعيدة بين أنقرة وموسكو أضر بالتنسيق الروسي- التركي في سورية، وبالتحديد في محافظة إدلب، التي تعتبر المنطقة "الأسخن" حسب اليوسف، مؤكداً أن "سوريا تحولت إلى صندوق بريد ... فإذا أرادت روسيا أن ترسل رسالة ما إلى الأتراك فتستخدم صندوق البريد السوري، وهو ما بدا مؤخرا بالرسالة الدموية بقصف معسكر فصيل فيلق الشام".
 
ورغم أن التفاهمات الروسية-التركية تمر بامتحان جديد، إلا أنها وبوجهة نظر المحلل السياسي "ستصمد، لأن التصعيد وحرق الجسور بين الطرفين غير وارد البتة"، مشيرا إلى أن "موسكو تستغل جملة من التطورات وتزجها في كافة الظروف، وتستطيع فيما بعد أن تبرر لكافة أعمالها، بناء على الاتفاقيات المبرمة مع أنقرة".

ضربات تحرج موقف أنقرة

لا يمكن فصل ما يشهده الشمال السوري الخاضع لسيطرة فصائل المعارضة في الميدان، عن التطورات التي شهدها، في مطلع تشرين الأول الحالي، وخاصة من ناحية إقدام فصائل "الجيش الوطني" التي تدعمها أنقرة على رفع جاهزيتها العسكرية، بعد طلب الأخيرة ذلك، في خطوة استباقية لأي هجوم محتمل من جانب روسيا وقوات الأسد.
 
الهجوم الذي رفعت الفصائل الجاهزية من أجله، جاء بناء على معلومات أخبرتهم به أنقرة، مفادها أن روسيا ستقدم عليه، من أجل الضغط لتحصيل مكاسب وإيقاف تقدم الجيش الأذربيجاني في إقليم "قره باغ".
 
وتمثّل رفع الجاهزية، في ذلك الوقت حسب ما قال مصدر عسكري لـ "الحرة" بالبدء بتدريبات ضمن معسكرات في مناطق متفرقة في ريف إدلب وريف حلب، وكانت غالبيتها "ليلية"، وتنحصر في عناصر القوات الخاصة فقط.
 
وعلى مدار الأسابيع الماضية من الشهر الحالي، أعلنت فصائل "الجيش الوطني" وما يسمى بـ"الجبهة الوطنية للتحرير" المنضوية فيه، عن فتح عدة معسكرات تدريب، ونشرت صوراً وتسجيلات مصورة منها على معرفاتها الرسمية، أظهر البعض منها مشاركة ضباط أتراك في عمليات التدريب، ولاسيما مع عناصر فصيل "فيلق الشام"، الذي تعرض للضربات الجوية، حديثاً.
 
زياد حج عبيد، ضابط منشق عن الجيش السوري يقول لـ "الحرة" إن "القصف الذي طال معسكر فيلق الشام يعتبر خرقاً لاتفاق خفض التصعيد".
 
ويضيف الضابط المقرب من فصائل "الجيش الوطني"، والمقيم في غازي عنتاب، أن "القصف سيحرج موقف أنقرة أمام الشعب السوري، وعلى المستوى الدولي سيظهر هشاشة الاتفاق بين الروس والأتراك"، معتبراً "لن نشاهد أي تحرك في الوقت الراهن"، في إشارة منه إلى تركيا.
 
وعن الحدث الذي سبق استهداف معسكر الفصيل المعارض، وهو انسحاب الجيش التركي من نقطة مورك، يشير الضابط إلى أن "انسحاب النقطة التركية جاء بقرار عسكري من قائد الجيش التركي الثاني، وليس بقرار سياسي".

قضايا خلافية عالقة

في سياق ما سبق يرى الباحث في مركز "جسور للدراسات"، عبد الوهاب عاصي التصعيد في إدلب مرتبطاً بعدم قدرة الطرفين (موسكو، أنقرة) على تجاوز القضايا الخلافية سواء داخل سوريا أو حتى خارجها.
 
ويضيف في تصريحات لـ"الحرة": "عادة ما تلجأ روسيا لهذا النوع من الضغط، من أجل دفع تركيا لتقديم تنازلات كبيرة، مثلما فعلت إبان الجولة السادسة من مباحثات أستانا، باستهداف فيلق الشام الذي كان ضمن وفد المعارضة السورية حينها".
 
وتتركز القضايا الخلافية بين الطرفين، حسب الباحث السوري على "الانتشار العسكري التركي في سوريا، ومكافحة الإرهاب، ومصير حركة التجارة والنقل وعودة النازحين والعملية السياسية ومصير المنطقة".
 
وكانت موسكو وأنقرة قد أجريتا مؤخراً جولة جديدة من المباحثات على مستوى الخبراء، هي الثالثة من نوعها من توقيع مذكرة موسكو في مارس 2020، والتي غالباً ما تركزت على الملفات الثلاثة الأولى، لا سيما وأنها تزامنت مع انسحاب نقطة المراقبة في مورك شمالي حماة.
 
من جانب آخر يعتقد الباحث أن "التصعيد في جنوب القوقاز قد ألقى بظلاله على الوضع شمال غرب سوريا، من ناحية وجود رغبة وقناعة لدى روسيا بأن تؤدي رسائل إمكانية تقويض وقف إطلاق النار في إدلب إلى حث تركيا على ممارسة نفوذ على أذربيجان من أجل ضمان وقف إطلاق النار في قره باغ".
 
لكن حرص أنقرة على عدم تقويض استراتيجية تجزئة الخلافات أي استمرار الفصل بين ملفات أذربيجان وسوريا وليبيا، قد يؤدي إلى استمرار التصعيد دون الانزلاق بالضرورة إلى المواجهة العسكرية، حسب الباحث السوري.
 
ويشير "قد تحاول تركيا استرضاء روسيا بتنفيذ انسحاب تدريجي من مناطق سيطرة النظام السوري، دون القبول بالشروط الداعية لتراجعها نحو شمال الطريق الدولي m4، وربما تكسب أنقرة من ذلك مزيداً من الوقت لتعزيز موقفها عسكرياً ودبلوماسياً في سوريا وخارجها".

لكن ما سبق لا توجد له أية مؤشرات على الأرض حتى الآن، حسب وجهة نظر الباحث السوري الذي يقول: "لا تكفي الرغبة في الحفاظ على التعاون الوثيق، الذي لن يتضرر بالضرورة في حال تقويض نظام وقف إطلاق النار في سوريا مجددا، أي الذهاب نحو مفاوضات حافة الهاوية على غرار ما حصل مطلع عام 2020".
 
ويشير إلى أن روسيا تسعى إلى حصر تواجد تركيا والمعارضة السورية في منطقة أمنية شمال طريق M4، في حين تبذل تركيا جهداً لجعل منطقة عملية "درع الربيع" منطقة آمنة على غرار "درع الفرات" و"غصن الزيتون" و"نبع السلام".