ما العوامل التي فجرت غضب الشارع في الولايات المتحدة؟

ليس من السهل فهم ما يدور خلال أحداث الشغب المتزامنة مع احتجاجات محقة، خاصة إذا كانت لا تزال مستمرة كما هو الحال في عشرات المدن والبلدات الأميركية، التي تشهد احتجاجات وأعمال نهب وتخريب منذ أيام.

وبدأت الاحتجاجات عقب انتشار فيديو يوثق الموت البطيء لجورج فلويد، الأميركي من أصول أفريقية، عقب اعتقاله في مدينة مينيابوليس، بولاية مينيسوتا.

اللقطات المصورة المؤلمة التي استمرت لتسع دقائق تقريبا، ويظهر فيها فلويد وهو يستنجد ويتوسل الشرطي الأبيض، ديريك شوفين الذي كان يضغط على رقبته بركبته، بينما يردد الموقوف "لا أستطيع التنفس" و"لا تقتلني"، كافية لإشعال فتيل نار الغضب الشعبي.

وفي حين أن عنف الشرطة والتمييز الذي يتعرض له الأميركيون السود على يد عناصر في سلطات إنفاذ القانون، أدى في كثير من الحالات إلى مظاهرات وشهد تأسيس حركة "حياة السود مهمة" أو Black Lives Matter عام 2013 ردا على تبرئة جورج زيمارمان الرجل الأبيض، وهو حارس متطوع، من تهمة قتل المراهق الأسود تريفون مارتن في ولاية فلوريدا،  إلا أن ما تشهده أميركا اليوم يعد من أكبر الاحتجاجات ضد أشكال العنصرية التي يتعرض لها السود.   

ولم يساعد إعلان سلطات مينيابوليس النتائج الأولية لتشريح فلويد والتي أشارت إلى أن وفاته كانت "نتيجة مشاكل صحية"، في إخماد النيران المستعرة. وكشفت نتائج تشريح مستقل للجثمان أعلنت، الاثنين، "أن الاختناق الناجم عن الضغط المستمر هو سبب الوفاة".

كما لم يكن كاف انتظار السلطات لأربعة أيام كاملة قبل توجيه تهم إلى الشرطي الذي طرد مع ثلاثة من زملائه الذين وقفوا متفرجين على ما كان يحدث، من وظيفتهم بعد انتشار الفيديو. ولا يزال الشرطيون الثلاثة طلقاء رغم المطالبات بتوجيه تهم إليهم أيضا.

أما الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، فتحدث إلى أسرة الضحية يوم الجمعة، وقال في تصريحات، من البيت الأبيض، "أتفهم ألمهم"، مضيفا أن "عائلة جورج لها الحق في العدالة".

كما أعرب عن استيائه بعدما شاهد فيديو فلويد، واصفا الحادث بأنه "دنيء ومفجع"، وفق المتحدثة باسم البيت الأبيض، كايلي ماكيناني.

لكن تصريحات ترامب ردا على العنف الذي يتخلل المظاهرات أثارت انتقادات واسعة، وقال كثيرون حتى من حزبه إنها لا تساعد الوضع، في حين أيد آخرون موقف الرئيس الأميركي.

وقال حاكم ولاية ميريلند، الجهوري لاري لوغان، إن "خطاب ترامب المهيج للمشاعر" لا يساعد في استعادة الهدوء في مينيابوليس. وأضاف في تصريحات لـCNN الأحد، أن "أحد أهم الأمور التي يمكن لقائد أن يقوم بها في الوقت الراهن هو تهدئة الغضب".

ورغم دعوة ترامب المتظاهرين إلى تكريم ذكرى فلويد من خلال الحفاظ على سلمية الاحتجاجات، إلا أنه وصف من يتورطون في أفعال غير قانونية بـ"اللصوص" وهدد باستخدام الجيش لأن حكام الولايات الديمقراطيين عجزوا في وضع حد للعنف.

هوغان، قال أيضا إن خطاب ترامب "التصعيدي" يعد نقيضا للرسالة التي كان ينبغي أن تأتي من البيت الأبيض.

ومع ذلك، فإن الاحتجاجات على مقتل فلويد، لم تستهدف بشكل عام ترامب. ولم يشر الكثير من المتظاهرين الذين تحدثوا إلى وسائل إعلام في مدن بينها مينيابوليس وممفس ونيويورك ولوس أنجلوس إلى الرئيس الأميركي.
غضب تراكم لأجيال

وكتبت المغردة إيرين هاينز "هذه الليلة ليست عن الأسبوع الجاري. لا تتعلق بهذا العام. لا تتعلق برئيسنا الحالي أو سلفه. هذه الليلة جرى إعدادها لأجيال. ومناخنا الحالي ليس إلا محفز اشتعال".

ومما قد يدل على أن الاحتجاجات ليست ضد الرئيس الأميركي أيضا، هجوم محتجين على مقر شبكة CNN في مدينة أتلنتا بولاية جورجيا. وجرى ذلك رغم أن المحطة تعد من بين وسائل الإعلام التي تنتقد ترامب بشدة.
إهمال واسع للشكاوى ضد ممارسات الشرطة

صحيفة نيويورك تايمز أفادت بأن جهود محاسبة الضباط غير المنضبطين تواجه مقاومة من النقابات وهيئات المحلفين التي تتردد في التشكيك في نزاهتهم.

وقالت إن الشرطي المتهم بقتل فلويد، قدمت ضده 17 شكوى على الأقل، لكن ذلك لم يؤثر على مساره الوظيفي خلال عقدين من العمل مع شرطة مينيابوليس.

شوفين ليس حالة استثنائية، إذ يقول منتقدو جهاز شرطة المدينة إن الأخير ورغم اتهامه بارتكاب انتهاكات عبر السنين، فشل في تطبيق توصيات فدرالية من أجل اعتماد إصلاحات في متابعة الشكاوى ومعاقبة الضباط.

وكشفت الصحيفة أنه رغم الغضب العارم إزاء عمليات القتل التي يتعرض لها مواطنون على يد ضباط شرطة، إلا أنه يبقى من الصعب جدا في الولايات المتحدة تحميل هؤلاء المسؤولية بسبب النفوذ السياسي لاتحادات الشرطة، وإحجام المحققين والمحلفين والمدعين عن التشكيك في قرارات كثير ما يضطر شرطيون إلى اتخاذه في لمحة عين، فضلا عن الحرية الواسعة التي يمنحها القانون للشرطة باستخدام القوة.

وكثيرا ما تقاوم أجهزة الشرطة نفسها المرجعات المدنية لعملها، أو تماطل في تبني إجراءات لإصلاح الممارسات العقابية الخاصة بالضباط. بل إن حتى قادة الشرطة ذوو التوجهات الإصلاحية ومن يتعهدون بجلب التغيير إلى مدن شهدت حوادث متكررة لقتل مواطنين سود على عناصر شرطة بيض، مثل بالتيمون وفيلادلفيا، يجدون صعوبة في معاقبة وطرد الفاعلين السيئين.

وقال ديف بيكين، عضو في منظمة "مجتمعات متحدة ضد عنف الشرطة" في مينيسوتا، للصحيفة، إن كثيرا من الإجراءات التأديبية ضد الضباط يتم إبطالها بسبب مقارنتها بقضايا سابقة، ما يجعل من الصعب على أجهزة الشرطة عكس تاريخ التساهل أو الاستجابة للتطلعات المتغيرة للمواطنين.

وأضاف "لأن الجهاز لم يعاقب أي شخص أبدا، عندما يحاول فعل ذلك، تعتبر الخطوة تعسفية واعتباطية".

ويؤكد كثير من المحتجون على أن ما يريدونه رؤيته هو بدء إصلاح للشرطة من خلال اعتقال الضباط الأربعة المتورطين في مقتل فلويد.
الظلم أساس الغضب

ومن تعالي أصوات الغضب، بدأت الاحتجاجات تتغير لكنها تدور حول الظلم والمطالبة بالعدالة. وقبل أكثر من 50 عاما، قال زعيم حركة الحقوق المدنية مارتن لوثر كينغ إن "الشغب لغة من لا يسمع صوته".

كما قال مالكون إكس وهو أيضا من كبار وجوه الحركة المدافعة عن حقوق الإنسان والأميركيين من أصول أفريقية، "إذا أدخلت سكينا في ظهري بتسعع بوصات ثم أخرجته ست بوصات، فليس هناك أي تقدم. إذا أخرجته بشكل كامل، فذلك ليس تقدما. التقدم هو شفاء الجرح الذي سببته الطعنة".

وهناك الكثير من المعاناة بين الأميركيين السود التي عادت إلى الواجهة في العام الجاري. وقد تأثرت هذه الفئة من المجتمع الأميركي التي تشكل 12 في المئة من سكان بالبلاد، بشكل غير متكافئ جائحة كورونا، إذ تعد أكثر عرضة للإصابة والوفاة جراء كوفيد-19 مقارنة بالمواطنين من العرق الأبيض.

ويشكل الأميركيون السود، وفق مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها، حوالي 26 في المئة من حالات الإصابة بالمرض الجديد وما يقارب 23 في المئة من الوفيات التي وصلت حتى صباح الاثنين إلى 104 آلاف و383 حالة. وكشفت دراسة أن المقاطعات التي تقطنها غالبية من السود فيها حوالي نصف حالات الإصابة في البلاد وأكثر من 60 في المئة من الوفيات.

وأثرت التداعيات الاقتصادية للأزمة الصحية وجهود مكافحتها بشكل غير متكافئ أيضا على الأميركيين السود. وبحسب مركز بيو للأبحاث فإن 44 في المئة من السود قالوا إن شخصا يعيش معهم على الأقل فقد وظيفته أو قلص راتبه بسبب الجائحة، فيما كشف 73 في المئة أن ما من مدخرات لديهم لتغطية حاجياتهم خلال الحالات الطارئة.

ويشكل الأميركيون السود أكبر نسبة لنزلاء السجون الذين يبلغ عددهم حواللي 2.3 مليون نسمة، محتجزون فب 1833 من سجون الولايات و110 من السجون الفدرالية و1772 من المنشآت الخاصة بالأحداث، و3134 سجنا محيا، و218 مركز احتجاز تابع لسلطات الهجرة، وغيرها.

ويشكل الأميركيون السود 40 في المئة من نزلاء السجون.

وجاء مقتل فلويد، ليصب مزيدا من النار، ويفجر الغضب المتراكم. وفي ظل أجواء الحزن والغضب، تنتشر نظريات مؤامرة حول ما يجري في الولايات المتحدة.

الرئيس السابق باراك أوباما، كتب الاثنين، أن موجه الاحتجاجات تعبر عن الإحباط الحقيقي والمشروع إزاء عقود من الفشل في إصلاح ممارسات الشرطة ونظام العدالة الجنائية الأوسع في الولايات المتحدة.

وتابع أن معظم المشاركين في المظاهرات مسالمون وشجعان وملهمون يستحقون الدعم وليس الإدانة، وفي المقابل هناك أقلية من الأفراد ممن لجأوا إلى العنف بأشكال مختلفة إما بسبب غضبهم أو مجرد انتهازيتهم ويعرضون أبرياء للخطر.